صفحة جزء
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم .

وصاية ثانية للشهداء تجمع الشهادات في جميع الأحوال ; فإنه أمر أن يكتب الشاهد بالعدل ، ثم نهى عن الامتناع من الكتابة بين المتداينين ، وأعقب ذلك بالنهي عن كتمان الشهادة كلها ، فكان هذا النهي بعمومه بمنزلة التذييل لأحكام الشهادة في الدين .

[ ص: 126 ] واعلم أن قوله تعالى : ولا تكتموا الشهادة نهي ، وأن مقتضى النهي إفادة التكرار عند جمهور علماء الأصول ، أي تكرار الانكفاف عن فعل المنهي في أوقات عروض فعله ، ولولا إفادته التكرار لما تحققت معصية ، وأن التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داع لفعل المنهي عنه ، فلذلك كان حقا على من تحمل شهادة بحق ألا يكتمه عند عروض إعلانه : بأن يبلغه إلى من ينتفع به ، أو يقضي به كلما ظهر الداعي إلى الاستظهار به ، أو قبل ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه بغيبة أو طرو نسيان ، أو عروض موت ، بحسب ما يتوقع الشاهد أنه حافظ للحق الذي في علمه ، على مقدار طاقته واجتهاده .

وإذ قد علمت آنفا أن الله أنبأنا بأن مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله : وأقوم للشهادة وأنه حرض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طلب بقوله : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا فعلم من ذلك كله الاهتمام بإظهار الشهادة إظهارا للحق ، ويؤيد هذا المعنى ويزيده بيانا قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - ألا أخبركم بخير الشهداء ، الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها رواه مالك في الموطأ ورواه عنه مسلم والأربعة .

فهذا وجه تفسير الآية تظاهر فيه الأثر والنظر ، ولكن روي في الصحيح عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم - قالها ثانية ، وشك أبو هريرة في الثالثة - ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا الحديث .

وهو مسوق مساق ذم من وصفهم بأنهم يشهدون قبل أن يستشهدوا ، وأن ذمهم من أجل تلك الصفة ، وقد اختلف العلماء في محمله ، قال عياض : حمله قوم على ظاهره من ذم من يشهد قبل أن تطلب منه الشهادة ، والجمهور على خلافه وأن ذلك غير قادح ، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهد كاذبا ، وإلا فقد جاء في الصحيح خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها وأقول : روى مسلم عن عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم - قالها مرتين أو ثلاثا - ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون الحديث .

[ ص: 127 ] والظاهر أن ما رواه أبو هريرة وما رواه عمران بن حصين حديث واحد ، سمعه كلاهما ، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبينا لفظ أبي هريرة أن معنى قوله : قبل أن يستشهدوا دون أن يستشهدوا ، أي دون أن يستشهدهم مشهد ، أي : أن يحملوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون ، وهو الذي عناه المازري بقوله : وحملوا ما في الحديث - أي حديث أبي هريرة - على ما إذا شهد كاذبا . فهذا طريق للجمع بين الروايتين ، وهي ترجع إلى حمل المجمل على المبين .

وقال النووي : تأوله بعض العلماء بأن ذم الشهادة قبل أن يسألها الشاهد هو في الشهادة بحقوق الناس بخلاف ما فيه حق الله . قال النووي : وهذا الجمع هو مذهب أصحابنا ، وهذه طريقة ترجع إلى إعمال كل من الحديثين في باب ، بتأويل كل من الحديثين على غير ظاهره ، لئلا يلغى أحدهما .

قلت : وبنى عليه الشافعية فرعا برد الشهادة التي يؤديها الشاهد قبل أن يسألها . ذكره الغزالي في الوجيز ، والذي نقل ابن مرزوق في شرح مختصر خليل على الوجيز " الحرص على الشهادة بالمبادرة قبل الدعوى لا تقبل ، وبعد الدعوى وقبل الاستشهاد وجهان ؛ فإن لم تقبل فهل يصير مجروحا وجهان " .

فأما المالكية فقد اختلف كلامهم .

فالذي ذهب إليه عياض وابن مرزوق أن أداء الشاهد شهادته قبل أن يسألها مقبول لحديث الموطأ : خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ونقل الباجي عن مالك : أن معنى الحديث أن يكون عند الشاهد شهادة لرجل لا يعلم بها ، فيخبره بها ويؤديها له عند الحاكم ، فإن مالكا ذكره في الموطأ ولم يذيله بما يقتضي أنه لا عمل عليه ، وتبع الباجي ابن مرزوق في شرحه لمختصر خليل ، وادعى أنه لا يعرف في المذهب ما يخالفه والذي ذهب إليه ابن الحاجب ، وخليل وشارحو مختصريهما : أن أداء الشهادة قبل أن يطلب من الشاهد أداؤها مانع من قبولها : قال ابن الحاجب : وفي الأداء يبدأ به دون طلب فيما تمحض من حق الآدمي قادحة ، وقال خليل - عاطفا على موانع قبول الشهادة - : " أو رفع قبل الطلب في محض حق الآدمي " [ ص: 128 ] وكذلك ابن راشد القفصي في كتابه ( الفائق في الأحكام والوثائق ) ونسبه النووي في شرحه على صحيح مسلم لمالك ، على أن المستند متحد وهو إعمال حديث أبي هريرة ولعله أخذ نسبة ذلك لمالك من كلام ابن الحاجب المتقدم .

وادعى ابن مرزوق أن ابن الحاجب تبع ابن شاس إذ قال : فإن بادر بها من غير طلب لم يقبل . وأن ابن شاس أخذه من كلام الغزالي قال : والذي تقتضيه نصوص المذهب أنه إن رفعها قبل الطلب لم يقدح ذلك فيها بل إن لم يكن فعله مندوبا فلا أقل من أن لا ترد ، واعتضد بكلام الباجي في شرح حديث : خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها .

وقد سلكوا في تعليل المسألة مسلكين : مسلك يرجع إلى الجمع بين الحديثين ، وهو مسلك الشافعية ، ومسلك إعمال قاعدة رد الشهادة بتهمة الحرص على العمل بشهادته وأنه ريبة .

وقوله : ومن يكتمها فإنه آثم قلبه زيادة في التحذير ، والإثم : الذنب والفجور .

والقلب اسم للإدراك والانفعالات النفسية والنوايا ، وأسند الإثم إلى القلب وإنما الآثم الكاتم لأن القلب - أي حركات العقل - يسبب ارتكاب الإثم . فإن كتمان الشهادة إصرار قلبي على معصية ، ومثله قوله تعالى : سحروا أعين الناس وإنما سحروا الناس بواسطة مرئيات وتخيلات . وقول الأعشى :


كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق

لأن الفرق ينشأ عن رؤية الأهوال .

وقوله : والله بما تعملون عليم تهديد ، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع ; لأن القادر لا يحول بينه وبين المؤاخذة إلا الجهل فإذا كان عليما أقام قسطاس الجزاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية