[ ص: 314 ] "
إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل تغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون
لما ذكر الله فريقا مرحومين على وجه الإجمال قابله هنا بفريق معذبين وهم المشركون ، ووصف بعض أصناف عذابهم وهو مأكلهم وإهانتهم وتحريقهم ، فكان مقتضى الظاهر أن يبتدأ الكلام بالإخبار عنهم بأنهم يأكلون شجرة الزقوم كما قال في سورة الواقعة
ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم الآية ، فعدل عن ذلك إلى الإخبار عن شجرة الزقوم بأنها طعام الأثيم اهتماما بالإعلام بحال هذه الشجرة . وقد جعلت شجرة الزقوم شيئا معلوما للسامعين فأخبر عنها بطريق تعريف الإضافة لأنها سبق ذكرها في سورة الواقعة التي نزلت قبل سورة الدخان فإن الواقعة عدت السادسة والأربعين في عداد نزول السور وسورة الدخان ثالثة وستين .
ومعنى كون الشجرة طعاما أن ثمرها طعام ، كما قال تعالى
طلعها كأنه رءوس الشياطين فإنهم لآكلون منها .
وكتبت كلمة " شجرت " في المصاحف بتاء مفتوحة مراعاة لحالة الوصل وكان الشائع في رسم أواخر الكلم أن تراعى فيه حالة الوقف ، فهذا مما جاء على خلاف الأصل .
والأثيم : الكثير الآثام كما دلت عليه زنة فعيل . والمراد به : المشركون المذكورون في قوله
إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى ، فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لقصد الإيماء إلى أن المهم بالشرك مع سبب معاملتهم هذه .
[ ص: 315 ] وتقدم الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات عند قوله تعالى أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم .
والمهل بضم الميم دردي الزيت . والتشبيه به في سواد لونه وقيل في ذوبانه .
والحميم : الماء الشديد الحرارة الذي انتهى غليانه ، وتقدم عند قوله تعالى
لهم شراب من حميم في سورة الأنعام . ووجه الشبه هو هيئة غليانه .
وقرأ الجمهور " تغلي " بالتاء الفوقية على أن الضمير لـ شجرة الزقوم .
وإسناد الغليان إلى الشجرة مجاز وإنما الذي يغلي ثمرها . وقرأه
ابن كثير وحفص بالتحتية على رجوع الضمير إلى الطعام لا إلى المهل .
والغليان : شدة تأثر الشيء بحرارة النار يقال : غلى الماء وغلت القدر ، قال
النابغة .
يسير بها النعمان تغلي قدوره
وجملة " خذوه " إلخ مقول لقول محذوف دل عليه السياق ، أي يقال لملائكة العذاب : خذوه ، والضمير المفرد عائد إلى الأثيم باعتبار آحاد جنسه .
والعتل : القود بعنف وهو أن يؤخذ بتلبيب أحد فيقاد إلى سجن أو عذاب ، وماضيه جاء بضم العين وكسرها .
وقرأه بالضم
نافع وابن كثير وابن عامر . وقرأه الباقون بكسر التاء .
وسواء الشيء : وسطه وهو أشد المكان حرارة .
وقوله
إلى سواء الجحيم يتنازعه في التعلق كل من فعلي
خذوه فاعتلوه لتضمنهما : سوقوه سوقا عنيفا .
و ( ثم ) للتراخي الرتبي لأن صب الحميم على رأسه أشد عليه من أخذه وعتله .
والصب : إفراغ الشيء المظروف من الظرف ، وفعل الصب لا يتعدى إلى العذاب لأن العذاب أمر معنوي لا يصب . فالصب مستعار للتقوية والإسراع فهو تمثيلية
[ ص: 316 ] اقتضاها ترويع الأثيم حين سمعها ، فلما كان المحكي هنا القول الذي يسمعه الأثيم صيغ بطريقة التمثيلية تهويلا ، بخلاف قوله
يصب من فوق رءوسهم الحميم الذي هو إخبار عنهم في زمن هم غير سامعيه فلم يؤت بمثل هذه الاستعارة إذ لا مقتضى لها .
وجملة
ذق إنك أنت العزيز الكريم مقول قول آخر محذوف تقديره : قولوا له أو يقال له .
والذوق مستعار للإحساس وصيغة الأمر مستعملة في الإهانة .
وقوله
إنك أنت العزيز الكريم خبر مستعمل في التهكم بعلاقة الضدية .
والمقصود عكس مدلوله ، أي أنت الذليل المهان ، والتأكيد للمعنى التهكمي .
وقرأه الجمهور بكسر همزة إنك . وقرأه
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي بفتحها على تقدير لام التعليل وضمير المخاطب المنفصل في قوله " أنت " تأكيد للضمير المتصل في " إنك " ولا يؤكد ضمير النصب المتصل إلا بضمير رفع منفصل .
وجملة
إن هذا ما كنتم به تمترون بقية القول المحذوف ، أي ويقال للآثمين جميعا : إن هذا ما كنتم به تمترون في الدنيا . والخبر مستعمل في التنديم والتوبيخ ، واسم الإشارة مشار به إلى الحالة الحاضرة لديهم ، أي هذا العذاب والجزاء هو ما كنتم تكذبون به في الدنيا .
والامتراء : الشك ، وأطلق الامتراء على جزمهم بنفي يقينهم بانتفاء البعث لأن يقينهم لما كان خليا عن دلائل العلم كان بمنزلة الشك ، أي أن البعث هو بحيث لا ينبغي أن يوقن بنفيه على نحو ما قرر في قوله تعالى
ذلك الكتاب لا ريب فيه .