ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوءة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون الوجه أن يكون سوق خبر
بني إسرائيل هنا توطئة وتمهيدا لقوله بعده
ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها أثار ذلك ما تقدم من قوله
ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه إلى قوله "
اتخذها هزؤا " ثم قوله
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله فكان المقصد قوله
ثم جعلناك على شريعة من الأمر ولذلك عطفت الجملة بحرف ( ثم ) الدال على التراخي الرتبي ، أي على أهمية ما عطف بها .
ومقتضى ظاهر النظم أن يقع قوله
ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب الآيتين بعد قوله
جعلناك على شريعة من الأمر فيكون دليلا وحجة له ؛ فأخرج النظم على خلاف مقتضى الظاهر فجعلت الحجة تمهيدا قصدا للتشويق لما بعده ، وليقع ما بعده معطوفا بـ ( ثم ) الدالة على أهمية ما بعدها .
[ ص: 344 ] وقد عرف من تورك المشركين على النبيء - صلى الله عليه وسلم - في شأن القرآن ما حكاه الله عنهم في قوله
فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى وقولهم "
لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " ، فمن أجل ذلك وقع هذا بعد قوله
ويل لكل أفاك أثيم إلى قوله
وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزؤا وقوله
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ، فالجملة معطوفة على تلك الجمل .
وأدمج في خلالها ما اختلف فيه
بنو إسرائيل على ما دعتهم إليه شريعتهم ، لما فيه من تسلية النبيء - صلى الله عليه وسلم - على مخالفة قومه دعوته تنظيرا في أصل الاختلاف دون أسبابه وعوارضه .
ولما كان في الكلام ما القصد منه التسلية والاعتبار بأحوال الأمم حسن تأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق ، فمصب هذا التحقيق هو التفريع الذي في قوله
فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم تأكيدا للمؤمنين بأن الله يقضي بينهم وبين المشركين كشأنه فيما حدث بين
بني إسرائيل .
وقد بسط في ذكر النظير من
بني إسرائيل من وصف حالهم حينما حدث الاختلاف بينهم ، ومن التصريح بالداعي للاختلاف بينهم ما طوي من مثل بعضه من حال المشركين حين جاءهم الإسلام فاختلفوا مع أهله إيجازا في الكلام للاعتماد على ما يفهمه السامعون بطريق المقايسة على أن أكثره قد وقع تفصيله في الآيات السابقة مثل قوله
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وقوله "
هذا هدى " ، فإن ذلك يقابل قوله هنا
ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ومثل قوله
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض فإنه يقابل قوله هنا
ورزقناهم من الطيبات ، ومثل قوله
يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا إلى " لهم
عذاب مهين " فإنه يقابل قوله هنا
وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، ومثل قوله
ليجزي قوما بما كانوا يكسبون فإنه مقابل قوله هنا
إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون .
[ ص: 345 ] والكتاب : التوراة .
والحكم يصح أن يكون بمعنى الحكمة ، أي الفهم في الدين وعلم محاسن الأخلاق كقوله تعالى
وآتيناه الحكم صبيا ، يعني
يحيى ، ويصح أن يكون بمعنى السيادة ، أي أنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم ولا تحكمهم أمة أخرى كقوله تعالى : "
وجعلكم ملوكا " ، والنبوة أن يقوم فيهم أنبياء .
ومعنى إيتائهم هذه الأمور الثلاثة : إيجادها في الأمة وإيجاد القائمين بها لأن نفع ذلك عائد على الأمة جمعاء فكان كل فرد من الأمة كمن أوتي تلك الأمور .
وأما رزقهم من الطيبات فبأن يسر لهم امتلاك بلاد
الشام التي تفيض لبنا وعسلا كما في التوراة في وعد
إبراهيم والتي تجبى إليها ثمرات الأرضين المجاورة لها وترد عليها سلع الأمم المقابلة لها على سواحل البحر فتزخر مراسيها بمختلف الطعام واللباس والفواكه والثمار والزخارف ، وذلك بحسن موقع البلاد من بين المشرق برا والمغرب بحرا . والطيبات : هي التي تطيب عند الناس وتحسن طعما ومنظرا ونفعا وزينة .
وأما تفضيلهم على العالمين فبأن جمع الله لهم بين استقامة الدين والخلق ، وبين حكم أنفسهم بأنفسهم ، وبث أصول العدل فيهم ، وبين حسن العيش والأمن والرخاء ، فإن أمما أخرى كانوا في بحبوحة من العيش ولكن ينقص بعضها استقامة الدين والخلق ، وبعضها عزة حكم النفس وبعضها الأمن بسبب كثرة الفتن .
والمراد بـ " العالمين " : أمم زمانهم وكل ذلك إخبار عما مضى من شأن
بني إسرائيل في عنفوان أمرهم لا عما آل إليه أمرهم بعد أن اختلفوا واضمحل ملكهم ونسخت شريعتهم .
و " بينات " صفة نزلت منزلة الجامد ، فالبينة : الحجة الظاهرة ، أي آتيناهم حججا ، أي علمناهم بواسطة كتبهم وبواسطة علمائهم حجج الحق والهدى التي من شأنها أن لا تترك للشك والخطأ إلى نفوسهم سبلا إلا سدتها .
والأمر : الشأن كما في قوله
وما أمر فرعون برشيد والتعريف في الأمر
[ ص: 346 ] للتعظيم ، أي من شئون عظيمة ، أي شأن الأمة وما به قوام نظامها إذ لم يترك
موسى والأنبياء من بعده شيئا مهما من مصالحهم إلا وقد وضحوه وبينوه وحذروا من الالتباس فيه .
و ( من ) في قوله من الأمر بمعنى ( في ) الظرفية فيحصل من هذا أن معنى "
وآتيناهم بينات من الأمر " : علمناهم حججا وعلوما في أمر دينهم ونظامهم بحيث يكونون على بصيرة في تدبير مجتمعهم وعلى سلامة من مخاطر الخطأ والخطل .
وفرع على ذلك قوله
فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم تفريع إدماج لمناسبته للحالة التي أريد تنظيرها . وتقدير الكلام : فاختلفوا وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ، فحذف المفرع لدلالة ما بعده عليه على طريقة الإيجاز إذ المقصود هو التعجيب من حالهم كيف اختلفوا حين لا مظنة للاختلاف إذ كان الاختلاف بينهم بعدما جاءهم العلم المعهود بالذكر آنفا من الكتاب والحكم والنبوة والبينات من الأمر ، ولو اختلفوا قبل ذلك لكان لهم عذر في الاختلاف وهذا كقوله تعالى
وأضله الله على علم .
وهذا الكلام كناية عن عدم التعجيب من اختلاف المشركين مع المؤمنين حيث إن المشركين ليسوا على علم ولا هدى ليعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ملطوف به في رسالته .
والبغي : الظلم . والمراد : أن اختلافهم عن عمد ومكابرة بعضهم لبعض وليس عن غفلة أو تأويل ، وهذا الظلم هو ظلم الحسد فإن الحسد من أعظم الظلم ، أي فكذلك حال نظرائهم من المشركين ما اختلفوا على النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلا بغيا منهم عليه مع علمهم بصدقه بدلالة إعجاز القرآن لفظا ومعاني .
وانتصب " بغيا " إما على المفعول لأجله ، وإما على الحال بتأويل المصدر باسم الفاعل ، وعلى كلا الوجهين فالعامل فيه فعل " اختلفوا " ، وإن كان منفيا في اللفظ لأن الاستثناء أبطل النفي إذ ما أريد إلا نفي أن يكون الاختلاف في وقت
[ ص: 347 ] قبل أن يحثهم العلم فلما استفيد ذلك بالاستثناء صار الاختلاف ثابتا وما عدا ذلك غير منفي .
وجملة
إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون مستأنفة استئنافا بيانيا لأن خبرهم العجيب يثير سؤالا في نفس سامعه عن جزاء الله إياهم على فعلهم ، وهذا جواب فيه إجمال لتهويل ما سيقضى به بينهم في الخير والشر لأن الخلاف يقتضي محقا ومبطلا .
ونظير هذه الآية قوله تعالى
ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون في سورة يونس .