ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين ( ثم ) للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، ولولا إرادة التراخي الرتبي لكانت الجملة معطوفة بالواو . وهذا التراخي يفيد أن مضمون الجملة المعطوفة بحرف ( ثم ) أهم من مضمون الجملة المعطوف عليها أهمية الغرض على المقدمة والنتيجة على الدليل .
وفي هذا التراخي تنويه بهذا الجعل وإشارة إلى أنه أفضل من إيتاء
بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة والبينات من الأمر ، فنبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وكتابه وحكمه وبيناته أفضل وأهدى مما أوتيه
بنو إسرائيل من مثل ذلك .
و ( على ) للاستعلاء المجازي ، أي التمكن والثبات على حد قوله تعالى
أولئك على هدى من ربهم .
وتنوين شريعة للتعظيم بقرينة حرف التراخي الرتبي .
[ ص: 348 ] والشريعة : الدين والملة المتبعة ، مشتقة من الشرع وهو : جعل طريق للسير ، وسمي النهج شرعا تسمية بالمصدر . وسميت شريعة الماء الذي يرده الناس شريعة لذلك ، قال
الراغب : استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيها بشريعة الماء قلت : ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير .
والأمر : الشأن ، وهو شأن الدين وهو شأن من شئون الله تعالى ، قال تعالى
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ، فتكون ( من ) تبعيضية وليست كالتي في قوله آنفا
وآتيناهم بينات من الأمر لأن إضافة شريعة إلى الأمر تمنع من ذلك .
وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغا عظيما إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة
موسى ، وأنها شريعة عظيمة ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدأب في بيانها والدعوة إليها .
ولذلك فرع عليه أمره باتباعها بقوله : " فاتبعها " أي دم على اتباعها ، فالأمر لطلب الدوام مثل
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله .
وبين قوله : " فاتبعها " وقوله :
ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون محسن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر .
و " الذين لا يعلمون " هم المشركون وأهواؤهم دين الشرك قال تعالى
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه .
والأهواء : جمع هوى ، وهو المحبة والميل . والمعنى : أن دينهم أعمال أحبوها لم يأمر الله بها ولا اقتضتها البراهين .
والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - . والمقصود منه : إسماع المشركين لئلا يطمعوا بصانعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياهم حين يرون منه الإغضاء عن هفواتهم وأذاهم وحين يسمعون في القرآن بالصفح عنهم كما في الآية السالفة
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله .
وفيه أيضا تعريض للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون . وعن
ابن [ ص: 349 ] عباس أنها نزلت لما دعته
قريش إلى دين آبائه قال
البغوي : كانوا يقولون له : ارجع إلى دين آبائك فإنهم أفضل منك .
وجملة
إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا تعليل للنهي عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون ، ويتضمن تعليل الأمر باتباع شريعة الله فإن كونهم لا يغنون عنه من الله شيئا يستلزم أن في مخالفة ما أمر الله من اتباع شريعته ما يوقع في غضب الله وعقابه فلا يغني عنه اتباع أهوائهم من عقابه .
والإغناء : جعل الغير غنيا ، أي غير محتاج ، فالآثم المهدد من قدير غير غني عن الذي يعاقبه ولو حماه من هو كفء لمهدده أو أقدر منه لأغناه عنه ، وضمن فعل الإغناء معنى الدفع فعدي بـ ( عن ) . وانتصب " شيئا " على المفعول المطلق و " من الله " صفة لـ " شيئا " . و ( من ) بمعنى بدل ، أي لن يغنوا عنك بدلا من عذاب الله ، أي قليلا من الإغناء البديل من عقاب الله فالكلام على حذف مضاف ، وتقدم عند قوله تعالى
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا في آل عمران .
وعطف على هذا التعليل تعليل آخر وهو
وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض أي إنهم ظالمون وأنت لست من الظالمين في شيء فلا يجوز أن تتبعهم في شيء وإنما يتبعهم من هم أولياؤهم . وذيل ذلك بقوله
والله ولي المتقين وهو يفيد أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - الله وليه لأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أول المتقين .