صفحة جزء
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون

لما كان الذين حسبوا أن يكونوا في الآخرة في نعمة وعزة كما كانوا في الدنيا قالوا ذلك عن غير دليل ولا نظر ولكن عن اتباع ما يشتهون لأنفسهم من دوام الحال الحسن تفرع على حسبانهم التعجيب من حالهم ، فعطف بالفاء الاستفهام المستعمل في التعجيب ، وجعل استفهاما عن رؤية حالهم ، للإشارة إلى بلوغ حالهم من الظهور إلى حد أن تكون مرئية .

وأصل التركيب : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه إلخ ، فقدمت همزة الاستفهام ، والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ، والمقصود من معه من المسلمين ، أو الخطاب لغير معين ، أي تناهت حالهم في الظهور فلا يختص بها مخاطب .

و " من " الموصولة صادقة على فريق المستهزئين الذين حسبوا أن يكون محياهم ومماتهم سواء بقرينة ضمير الجمع في الجملة المعطوفة بقوله وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا إلخ .

والمعنى : أن حجاجهم المسلمين مركز على اتباع الهوى والمغالطة ، فلا نهوض [ ص: 358 ] لحجتهم لا في نفس الأمر ولا فيما أرادوه ، على فرض وقوع البعث من أن يكونوا آمنين من أهوال البعث ، وأنهم لا يرجى لهم اهتداء لأن الله خلقهم غير قابلين للهدى فلا يستطيع غيره هداهم .

و " إلهه " يجوز أن يكون أطلق على ما يلازم طاعته حتى كأنه معبود فيكون هذا الإطلاق بطريقة التشبيه البليغ ، أي اتخذ هواه كإله له لا يخالف له أمرا .

ويجوز أن يبقى " إلهه " على الحقيقة ويكون " هواه " بمعنى مهويه ، أي عبد إلها لأنه يحب أن يعبده ، يعني الذين اتخذوا الأصنام آلهة لا يقلعون عن عبادتهم لأنهم أحبوها ، أي ألفوها وتعلقت قلوبهم بعبادتها ، كقوله تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم .

ومعنى " أضله الله " أنه حفهم بأسباب الضلالة من عقول مكابرة ونفوس ضعيفة ، اعتادت اتباع ما تشتهيه لا تستطيع حمل المصابرة والرضا بما فيه كراهية لها . فصارت أسماعهم كالمختوم عليها في عدم الانتفاع بالمواعظ والبراهين ، وقلوبهم كالمختوم عليها في عدم نفوذ النصائح ودلائل الأدلة إليها ، وأبصارهم كالمغطاة بغشاوات فلا تنتفع بمشاهدة المصنوعات الإلهية الدالة على انفراد الله بالإلهية وعلى أن بعد هذا العالم بعثا وجزاء .

ومعنى " على علم " أنهم أحاطت بهم أسباب الضلالة مع أنهم أهل علم ، أي عقول سليمة أو مع أنهم بلغهم العلم بما يهديهم وذلك بالقرآن ودعوة النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام .

فحرف ( على ) هنا معناه المصاحبة بمعنى ( مع ) وأصل هذا المعنى استعارة معنى الاستعلاء للاستعلاء المجازي وهو التمكن بين الوصف والموصوف . وشاع ذلك حتى صار معنى من معاني ( على ) كما في قول الحارث بن حلزة :


فيقينا على الشناءة تنمينا حصون وعزة قعساء



والمعنى : أنه ضال مع ما له من صفة العلم ، فالعلم هنا من وصف من اتخذ إلهه هواه وهو متمكن من العلم لو خلع عن نفسه المكابرة والميل إلى الهوى .

[ ص: 359 ] وقرأ الجمهور " غشاوة " بكسر الغين وفتح الشين بعدها ألف . وقرأه حمزة والكسائي وخلف ( غشوة ) بفتح الغين وسكون الشين وهو من التسمية بالمصدر وهي لغة .

وتقدم معنى الختم والغشاوة في أول سورة البقرة .

وفرع على هذه الصلة استفهام إنكاري أن يكون غير الله يستطيع أن يهديهم ، والمراد به تسلية النبيء - صلى الله عليه وسلم - لشدة أسفه لأغراضهم وبقائهم في الضلالة .

و " من بعد الله " بمعنى : دون الله ، وتقدم عند قوله تعالى فبأي حديث بعده يؤمنون آخر سورة الأعراف .

وفرع على ذلك استفهام عن عدم تذكر المخاطبين لهذه الحقيقة ، أي كيف نسوها حتى ألحوا في الطمع بهداية أولئك الضالين وأسفوا لعدم جدوى الحجة لديهم وهو استفهام إنكاري .

ومن المفسرين من حمل ( من ) الموصولة في قوله أفرأيت من اتخذ إلهه هواه على معين فقال مقاتل : هو أبو جهل بسبب حديث جرى بينه وبين الوليد بن المغيرة كانا يطوفان ليلة فتحدثا في شأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو جهل : والله إني لأعلم إنه لصادق فقال له المغيرة : مه ، وما دلك على ذلك ، قال : كنا نسميه في صباه الصادق الأمين فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن ؟ ! قال : فما يمنعك أن تؤمن به ؟ قال : تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة ، واللات والعزى إن اتبعته أبدا ؛ فنزلت هذه الآية . وإذا صح هذا فإن مطابقة القصة لقوله تعالى وأضله الله على علم ظاهرة . وعن مقاتل أيضا : أنها نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين كان يعبد من الأصنام ما تهواه نفسه .

وهذه الآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى الباعث للمؤمنين على أعمالهم ويتركوا اتباع أدلة الحق ، فإذا كان الحق محبوبا لأحد فذلك من التخلق بمحبة الحق تبعا للدليل مثل ما يهوى المؤمن الصلاة والجماعة وقيام رمضان وتلاوة القرآن وفي الحديث : أرحنا بها يا بلال يعني الإقامة للصلاة . وعن عبد الله بن عمرو بن [ ص: 360 ] العاص أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به وعن أبي الدرداء : إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه فإن كان عمله تبعا لهواه فيومه يوم سوء وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح .

وأما اتباع الأمر المحبوب لإرضاء النفس دون نظر في صلاحه أو فساده فذلك سبب الضلال وسوء السيرة .

قال عمرو بن العاص :


إذا المرء لم يترك طعاما يحبه     ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبة     إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما



ومن الكلمات المأثورة ثلاث من المهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه ويروى حديثا ضعيف السند .

وقدم السمع على القلب هنا بخلاف آية سورة البقرة ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة لأن المخبر عنهم هنا لما أخبر عنهم بأنهم اتخذوا إلههم هواهم ، فقد تقرر أنهم عقدوا قلوبهم على الهوى فكان ذلك العقد صارفا السمع عن تلقي الآيات فقدم لإفادة أنهم كالمختوم على سمعهم ، ثم عطف عليه و " قلبه " تكميلا وتذكيرا بذلك العقد الصارف للسمع ثم ذكر ما ( على بصره ) من شبه الغشاوة لأن ما عقد عليه قلبه بصره عن النظر في أدلة الكائنات .

وأما آية سورة البقرة فإن المتحدث عنهم هم هؤلاء أنفسهم ولكن الحديث عنهم ابتدئ بتساوي الإنذار وعدمه في جانبهم بقوله سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون فلما أريد تفصيله قدم الختم على قلوبهم لأنه الأصل كما كان اتخاذ الهوى كالإله أصلا في وصف حالهم في آية سورة الجاثية . فحالة القلوب هي الأصل في الانصراف عن التلقي والنظر في الآيتين ولكن نظم هذه الآية كان على حسب ما يقتضيه الذكر من الترتيب ، ونظم آية البقرة كان على حسب ما يقتضيه الطبع .

وقرأ الجمهور أفلا تذكرون بتشديد الذال . وقرأه عاصم بتخفيف الذال [ ص: 361 ] وأصله عند الجميع " تتذكرون " . فأما الجمهور فقراءتهم بقلب التاء الثانية ذالا لتقارب مخرجيهما قصدا للتخفيف ، وأما عاصم فقراءته على حذف إحدى التاءين .

التالي السابق


الخدمات العلمية