صفحة جزء
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين أعيد الأمر بأن يقول ما هو حجة عليهم لما علمت آنفا في تفسير قوله قل أرأيتم ما تدعون من دون الله الآيات .

وهذا جواب عما تضمنه قولهم " افتراه " من إحالتهم صدقه فيما جاء به من الرسالة عن الله إحالة دعتهم إلى نسبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الافتراء على الله . وإنما لم يعطف على جملة قل إن افتريته لأن المقصود الارتقاء في الرد عليهم من رد إلى أقوى منه فكان هذا كالتعدد والتكرير ، وسيأتي بعده قوله قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به . ونظير ذلك ما في سورة المؤمنين بل قالوا مثل ما قال الأولون إلى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون وقوله قل من رب السماوات السبع وقوله قل من بيده ملكوت كل شيء إلخ .

والبدع بكسر الباء وسكون الدال ، معناه البديع ، مثل الخف يعني الخفيف قال امرؤ القيس :

[ ص: 17 ]

يزل الغلام الخف عن صهواته



ومنه : الخل بمعنى الخليل . فالبدع : صفة مشبهة بمعنى البادع ، ومن أسمائه - تعالى - البديع خالق الأشياء ومخترعها . فالمعنى : ما كنت محدثا شيئا لم يكن بين الرسل .

و ( من ) ابتدائية ، أي ما كنت آتيا منهم بديعا غير مماثل لهم فكما سمعتم بالرسل الأولين أخبروا عن رسالة الله إياهم فكذلك أنا فلماذا يعجبون من دعوتي ؟

وهذه الآية صالحة للرد على نصارى زماننا الذين طعنوا في نبوته بمطاعن لا منشأ لها إلا تضليل وتمويه على عامتهم لأن الطاعنين ليسوا من الغباوة بالذين يخفى عليهم بهتانهم كقولهم إنه تزوج النساء ، أو أنه قاتل الذين كفروا ، أو أنه أحب زينب بنت جحش .

وقوله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم تتميم لقوله قل ما كنت بدعا من الرسل وهو بمنزلة الاعتراض فإن المشركين كانوا يسألون النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن مغيبات استهزاء فيقول أحدهم إذا ضلت ناقته : أين ناقتي ؟ ويقول أحدهم : من أبي ، أو نحو ذلك فأمر الله الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمهم بأنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم ، أي في الدنيا ، وهذا معنى قوله - تعالى - قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء .

ولذلك كان قوله إن أتبع إلا ما يوحى استئنافا بيانيا وإتماما لما في قوله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم بأن قصارى ما يدريه هو اتباع ما يعلمه الله به فهو تخصيص لعمومه ، ومثل علمه بأنه رسول من الله وأن المشركين في النار وأن وراء الموت بعثا . ومثل أنه سيهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين ، ومثل قوله - تعالى - إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، ونحو ذلك مما يرجع إلى ما أطلعه الله عليه ، فدع ما أطال به بعض المفسرين هنا من المراد بقوله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ومن كونها منسوخة أو محكمة ومن حكم نسخ الخبر .

ووجه عطف " ولا بكم " على " بي " بإقحام ( لا ) النافية مع أنهما متعلقان بفعل صلة ( ما ) الموصولة وليس في الصلة نفي ، فلماذا لم يقل : ما يفعل بي وبكم [ ص: 18 ] لأن الموصول وصلته لما وقعا مفعولا للمنفي في قوله " وما أدري " تناول النفي ما هو في حيز ذلك الفعل المنفي ، فصار النفي شاملا للجميع فحسن إدخال حرف النفي على المعطوف ، كما حسن دخول الباء التي شأنها أن تزاد فيجر بها الاسم المنفي المعطوف على اسم ( إن ) وهو مثبت في قوله - تعالى - : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى لوقوع ( أن ) العاملة فيه في خبر النفي وهو " أولم يروا " ، وكذلك زيادة ( من ) في قوله - تعالى - ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير فإن " خير " وقع معمولا لفعل " ينزل " وهو فعل مثبت ولكنه لما انتفت ودادتهم التنزيل صار التنزيل كالمنفي لديهم .

وعطف وما أنا إلا نذير مبين على جملة ما كنت بدعا من الرسل لأنه الغرض المسوق له الكلام بخلاف قوله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم .

والمعنى : وما أنا إلا نذير مبين لا مفتر ، فالقصر قصر إضافي ، وهو قصر قلب لرد قولهم " افتراه " .

التالي السابق


الخدمات العلمية