وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم
عطف على جملة أفلم يسيروا في الأرض ، وما بينهما استطراد اتصل بعضه ببعض .
وكلمة ( كأين ) تدل على كثرة العدد ، وتقدم في سورة آل عمران وفي سورة الحج .
والمراد بالقرية : أهلها ، بقرينة قوله أهلكناهم ، وإنما أجري الإخبار على القرية وضميرها لإفادة الإحاطة بجميع أهلها وجميع أحوالهم ، وليكون لإسناد إخراج الرسول إلى القرية كلها وقع من التبعة على جميع أهلها سواء منهم من تولى أسباب الخروج ، ومن كان ينظر ولا ينهى قال - تعالى -
وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم .
وهذا إطناب في الوعيد لأن مقام التهديد والتوبيخ يقتضي الإطناب ، فمفاد هذه الآية مؤكد لمفاد قوله
فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ، فحصل توكيد ذلك بما هو مقارب له من إهلاك الأمم ذوات القرى والمدن بعد أن شمل قوله الذين من قبلهم من كان من أهل القرى ، وزاد هنا التصريح بأن الذين من قبلهم كانوا أشد قوة منهم ليفهموا أن إهلاك هؤلاء هين على الله ، فإنه لما كان التهديد السابق تهديدا بعذاب السيف من قوله
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب الآيات ، قد يلقي في نفوسهم غرورا
[ ص: 91 ] فتعذر استئصالهم بالسيف وهم ما هم من المنعة وأنهم تمنعهم قريتهم
مكة وحرمتها بين العرب فلا يقعدون عن نصرتهم ، فربما استخفوا بهذا الوعيد ولم يستكينوا لهذا التهديد ، فأعلمهم الله أن قرى كثيرة كانت أشد قوة من قريتهم أهلكهم الله فلم يجدوا نصيرا .
وبهذا يظهر الموقع البديع للتفريع في قوله
فلا ناصر لهم . وزاد أيضا إجراء الإضافة في قوله " قريتك " ، ووصفها بـ التي أخرجتك لما تفيده إضافة القرية إلى ضمير الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تعبير أهلها بمذمة القطيعة ولما تؤذن به الصلة من تعليل إهلاكهم بسبب إخراجهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قريته قال - تعالى -
وأخرجوهم من حيث أخرجوكم .
وإطلاق الإخراج على ما عامل به المشركون النبيء - صلى الله عليه وسلم - من الجفاء والأذى ومقاومة نشر الدين إطلاق من قبيل الاستعارة لأن سوء معاملتهم إياه كان سببا في خروجه من
مكة وهي قريته ، فشبه سبب الخروج بالإخراج ثم أطلق عليه فعل " أخرجتك " ، وليس ذلك بإخراج وإنما هو خروج فإن المشركين لم يلجئوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالإخراج بل كانوا على العكس يرصدون أن يمنعوه من الخروج خشية اعتصامه بقبائل تنصره فلذلك أخفى على الناس أمر هجرته إلا عن
أبي بكر - رضي الله عنه - ، فقوله " أخرجتك " من باب قولك : أقدمني بلدك حق لي على فلان ، وهو استعارة على التحقيق ، وليس مجازا عقليا إذ ليس ثمة إخراج حتى يدعى أن سببه بمنزلة فاعل الإخراج ، ولا هو من الكناية وإن كان قد مثل به الشيخ في دلائل الإعجاز للمجاز العقلي ، والمثال يكفي فيه الفرض والاحتمال .
وفرع على الإخبار بإهلاك الله إياهم الإخبار بانتفاء جنس الناصر لهم ، أي المنقذ لهم من الإهلاك .
والمقصود : التذكير بأن أمثال هؤلاء المشركين لم يجدوا دافعا يدفع عنهم الإهلاك ، وذلك تعريض بتأييس المشركين من إلفاء ناصر ينصرهم في حربهم للمسلمين قطعا لما قد يخالج نفوس المشركين أنهم لا يغلبون لتظاهر قبائل العرب معهم ، ولذلك حزبوا الأحزاب في وقعة الخندق .
وضمير ( هم ) عائد إلى من قرية لأن المراد بالقرى أهلها . والمعنى :
[ ص: 92 ] أهلكناهم إهلاكا لا بقاء معه لشيء منهم لأن بقاء شيء منهم نصر لذلك الباقي بنجاته من الإهلاك .
واسم الفاعل في قوله " فلا ناصر " مراد به الجنس لوقوعه بعد ( لا ) النافية للجنس فلذلك لا يقصد تضمنه لزمن ما لأنه غير مراد به معنى الفعل ؛ بل مجرد الاتصاف بالمصدر فتمحض للاسمية ، ولا التفات فيه إلى زمن من الأزمنة الثلاثة ، ولذا فمعنى
فلا ناصر لهم : فلم ينصرهم أحد فيما مضى . ولا حاجة إلى إجراء ما حصل في الزمن الماضي مجرى زمن الحال ، وقولهم اسم الفاعل حقيقة في الحال جرى على الغالب فيما إذا أريد به معنى الفعل .
وقرأ الجمهور " وكأين " بهمزة بعد الكاف وبتشديد الياء . وقرأه
ابن كثير بألف بعد الكاف وتخفيف الياء مكسورة وهي لغة .