صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم

الافتتاح بنداء المؤمنين للتنبيه على أهمية ما يرد بعد ذلك النداء لتترقبه أسماعهم بشوق .

ووصفهم بـ الذين آمنوا جار مجرى اللقب لهم مع ما يؤذن به أصله من أهليتهم لتلقي هذا النهي بالامتثال .

وقد تقدم عند الكلام على أغراض السورة أن الفخر ذكر أن الله أرشد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وهي إما في جانب الله أو جانب رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو بجانب الفساق أو بجانب المؤمن الحاضر أو بجانب المؤمن الغائب ، فهذه خمسة أقسام ، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات يا أيها الذين آمنوا فأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة إلخ ، فهذا النداء الأول اندرج فيه واجب الأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، تعرض الغفلة عنها .

والتقدم حقيقته : المشي قبل الغير ، وفعله المجرد : قدم من باب نصر ، قال تعالى : يقدم قومه يوم القيامة . وحق قدم بالتضعيف أن يصير متعديا إلى مفعولين لكن ذلك لم يرد وإنما يعدى إلى المفعول الثاني بحرف ( على ) .

[ ص: 216 ] ويقال : قدم بمعنى تقدم كأنه قدم نفسه ، فهو مضاعف صار غير متعد . فمعنى لا تقدموا لا تتقدموا .

ففعل لا تقدموا مضارع : قدم القاصر بمعنى تقدم على غيره وليس لهذا الفعل مفعول ، ومنه اشتقت مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منه وهي ضد الساقة . ومنه سميت مقدمة الكتاب الطائفة منه المتقدمة على الكتاب . ومادة فعل تجيء بمعنى تفعل ، مثل وجه بمعنى توجه وبين بمعنى تبين ، ومن أمثالهم : بين الصبح لذي عينين .

والتركيب تمثيل بتشبيه حال من يفعل فعلا دون إذن من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحال من يتقدم مماشيه في مشيه ويتركه خلفه . ووجه الشبه الانفراد عنه في الطريق .

والنهي هنا للتحذير إذ لم يسبق صدور فعل من أحد افتيانا على الشرع . ويستروح من هذا أن هذا التقدم المنهي عنه هو ما كان في حالة إمكان الترقب والتمكن من انتظار ما يبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله فيومئ إلى أن إبرام الأمر في غيبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا حرج فيه .

وهذه الآية تؤيد قول الفقهاء : إن المكلف لا يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه . وعد الغزالي العلم بحكم ما يقدم عليه المكلف من قسم العلوم التي هي فرض على الأعيان الذين تعرض لهم .

والمقصود من الآية النهي عن إبرام شيء دون إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر قبله اسم الله للتنبيه على أن مراد الله إنما يعرف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم .

وقد حصل من قوله : " لا تقدموا " إلخ معنى اتبعوا الله ورسوله .

وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في صحيحه في قصة وفد بني تميم بسنده إلى ابن الزبير قال قدم ركب من بني تميم على النبيء صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة . وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس . قال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي أو إلى خلافي قال عمر : ما أردت [ ص: 217 ] خلافك أو إلى خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما في ذلك فنزل يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون .

فهذه الآية توطئة للنهي عن رفع الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهر له بالقول وندائه من وراء الحجرات .

وعن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت بسبب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقتلت بنو عامر رجال السرية إلا ثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبتهما فاعتزيا إلى بني عامر ظنا منهما أن هذا الاعتزاء أنجى لهما من شر توقعاه لأن بني عامر أعز من بني سليم ، فقتلوا النفر الثلاثة وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فقال : " بئسما صنعتم كانا من بني سليم ، والسلب ما كسوتهما " أي عرف ذلك لما رأى السلب فعرفه بأنه كساهما إياه وكانت تلك الكسوة علامة على الإسلام لئلا يتعرض لهم المسلمون فوادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا الآية ، أي لا تعملوا شيئا من تلقاء أنفسكم في التصرف من الأمة إلا بعد أن تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذه الرواية تكون القصة جرت قبيل قصة بني تميم فقرنت آيتاهما في النزول .

وهنالك روايات أخرى في سبب نزولها لا تناسب موقع الآية مع الآيات المتصلة بها . وأيا ما كان سبب نزولها فهي عامة في النهي عن جميع أحوال التقدم المراد .

وجعلت هذه الآية في صدر السورة مقدمة على توبيخ وفد بني تميم حين نادوا النبيء صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات لأن ما صدر من بني تميم هو من قبيل رفع الصوت عند النبيء صلى الله عليه وسلم ولأن مماراة أبي بكر وعمر وارتفاع أصواتهما كانت في قضية بني تميم فكانت هذه الآية تمهيدا لقوله يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية ، لأن من خصه الله بهذه الحظوة ، أي جعل إبرام العمل بدون أمره كإبرامه بدون أمر الله حقيق بالتهيب والإجلال أن يخفض الصوت لديه .

[ ص: 218 ] وإنما قدم هذا على توبيخ الذين نادوا النبيء صلى الله عليه وسلم لأن هذا أولى بالاعتناء إذ هو تأديب من هو أولى بالتهذيب .

وقرأه الجمهور : " تقدموا " بضم الفوقية وكسر الدال مشددة . وقرأه يعقوب بفتحهما على أن أصله : لا تتقدموا .

وقال فخر الدين عند الكلام على قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا في هذه السورة : إن فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي : إما مع الله أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس ، وهم على صنفين لأنهم : إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين من الطاعة ، وإما أن يكونوا خارجين عنها بالفسق ; والداخل في طريقتهم : إما حاضر عندهم ، أو غائب عنهم ، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات يا أيها الذين آمنوا وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة : فقال أولا : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله وهي تشمل طاعة الله تعالى ، وذكر الرسول معه للإشارة إلى أن طاعة الله لا تعلم إلا بقول الرسول فهذه طاعة للرسول تابعة لطاعة الله .

وقال ثانيا : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي لبيان الأدب مع النبيء صلى الله عليه وسلم لذاته في باب حسن المعاملة .

وقال ثالثا : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ الآية ؛ للتنبيه على طريقة سلوك المؤمنين في معاملة من يعرف بالخروج عن طريقتهم وهي طريقة الاحتراز منه لأن عمله إفساد في جماعتهم ، وأعقبه بآية وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا .

وقال رابعا : يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم إلى قوله : فأولئك هم الظالمون فنهى عما يكثر عدم الاحتفاظ فيه من المعاملات اللسانية التي قلما يقام لها وزن .

وقال خامسا : يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إلى قوله : تواب رحيم اهـ .

ويريد : أن الله ذكر مثالا من كل صنف من أصناف مكارم الأخلاق بحسب ما [ ص: 219 ] اقتضته المناسبات في هذه السورة بعد الابتداء بما نزلت السورة لأجله ابتداء ليكون كل مثال منها دالا على بقية نوعه ومرشدا إلى حكم أمثاله دون كلفة ولا سآمة .

وقد سلك القرآن لإقامة أهم حسن المعاملة طريق النهي عن أضدادها من سوء المعاملة لأن درء المفسدة مقدم في النظر العقلي على جلب المصلحة .

وعطف واتقوا الله تكملة للنهي عن التقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ليدل على أن ترك إبرام شيء دون إذن الرسول صلى الله عليه وسلم من تقوى الله وحده ، أي ضده ليس من التقوى .

وجملة إن الله سميع عليم في موضع العلة للنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله وللأمر بتقوى الله .

والسميع : العليم بالمسموعات ، والعليم أعم ، وذكرها بين الصفتين كناية عن التحذير من المخالفة ففي ذلك تأكيد للنهي والأمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية