أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد
تشير فاء التفريع إلى أن هذا الكلام مفرع على ما قبله وهو جملة أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وقوله : " تبصرة وذكرى " المعرض بأنهم لم يتبصروا به ولم يتذكروا . وقوله : "
فأنبتنا به جنات " وقوله : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج .
ويجوز أن يجعل تفريعا على قوله : "
كذلك الخروج " .
والاستفهام المفرع بالفاء استفهام إنكار وتغليط لأنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله لم يعي بالخلق الأول إذ لا ينكر عاقل كمال قدرة الخالق وعدم عجزه .
و " عيينا " معناه عجزنا ، وفعل عي إذا لم يتصل به ضمير يقال مدغما وهو الأكثر ويقال : عيي بالفك فإذا اتصل به ضمير تعين الفك . ومعناه : عجز عن إتقان فعل ولم يهتد لحيلته . ويعدى بالباء يقال : عيي بالأمر والباء فيه للمجاوزة . وأما أعيا بالهمزة في أوله قاصرا فهو للتعب بمشي أو حمل ثقل وهو فعل قاصر لا يعدى بالباء .
فالمعنى : ما عجزنا عن الخلق الأول للإنسان فكيف نعجز عن إعادة خلقه .
و ( بل ) في قوله :
بل هم في لبس من خلق جديد للإضراب الإبطالي عن
[ ص: 298 ] المستفهم عنه ، أي بل ما عيينا بالخلق الأول ، أي وهم يعلمون ذلك ويعلمون أن الخلق الأول للأشياء أعظم من إعادة خلق الأموات ولكنهم تمكن منهم اللبس الشديد فأغشى إدراكهم عن دلائل الإمكان فأحالوه ، فالإضراب على أصله من الإبطال .
واللبس : الخلط للأشياء المختلفة الحقائق بحيث يعسر أو يتعذر معه تمييز مختلفاتها بعضها عن بعض .
والمراد منه اشتباه المألوف المعتاد الذي لا يعرفون غيره بالواجب العقلي الذي لا يجوز انتفاؤه ، فإنهم اشتبه عليهم إحياء الموتى وهو ممكن عقلا بالأمر المستحيل في العقل فجزموا بنفي إمكانه فنفوه ، وتركوا القياس بأنه من قدر على إنشاء ما لم يكن موجودا هو على إعادة ما كان موجودا أقدر .
وجيء بالجملة الاسمية من قوله :
هم في لبس من خلق جديد للدلالة على ثبات هذا الحكم لهم وأنه متمكن من نفوسهم لا يفارقهم البتة ، وليتأتى اجتلاب حرف الظرفية في الخبر فيدل على انغماسهم في هذا اللبس وإحاطته بهم إحاطة الظرف بالمظروف .
و ( من ) في قوله : "
من خلق جديد " ابتدائية وهي صفة لـ " لبس " ، أي لبس واصل إليهم ومنجر عن خلق جديد ، أي من لبس من التصديق به .
وتنكير لبس للنوعية وتنكير خلق جديد كذلك ، أي ما هو إلا خلق من جملة ما يقع من خلق الله الأشياء مما وجه إحالته . ولتنكيره أجريت عليه الصفة بـ " جديد " .
والجديد : الشيء الذي في أول أزمان وجوده .
وفي هذا الوصف تورك عليهم وتحميق لهم من إحالتهم البعث ، أي اجعلوه خلقا جديدا كالخلق الأول ، وأي فارق بينهما .
وفي تسمية إعادة الناس للبعث باسم الخلق إيماء إلى أنها إعادة بعد عدم الأجزاء لا جمع لمتفرقها ، وقد مضى القول فيه في أول السورة .