وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد
عطف على جملة
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد لاشتراكهما في التنبيه على الجزاء على الأعمال . فهذا تنقل في مراحل الأمور العارضة للإنسان التي تسلمه من حال إلى آخر حتى يقع في الجزاء على أعماله التي قد أحصاها الحفيظان .
وإنما خولف التعبير في المعطوف بصيغة الماضي دون صيغة المضارع التي صيغ بها المعطوف عليه لأنه لقربه صار بمنزلة ما حصل قصدا لإدخال الروع في نفوس
[ ص: 306 ] المشركين كما استفيد من قوله :
ذلك ما كنت منه تحيد نظير قوله تعالى :
قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم .
ويأتي على ما اختارها الفخر في تفسير
إذ يتلقى المتلقيان الآية أن تكون جمل
وجاءت سكرة الموت إلخ في موضع الحال .
والتقدير : وقد جاءت سكرة الموت بالحق حينئذ .
والمجيء مجاز في الحصول والاعتراء وفي هذه الاستعارة تهويل لحالة احتضار الإنسان وشعوره بأنه مفارق الحياة التي ألفها وتعلق بها قلبه .
والسكرة : اسم لما يعتري الإنسان من ألم أو اختلال في المزاج يحجب من إدراك العقل فيختل الإدراك ويعتري العقل غيبوبة . وهي مشتق من السكر بفتح فسكون وهو الغلق لأنه يغلق العقل ومنه جاء وصف السكران .
والباء في قوله بالحق للملابسة ، وهي إما حال من سكرة الموت أي متصفة بأنها حق ، والحق : الذي حق وثبت فلا يتخلف ، أي السكرة التي لا طمع في امتداد الحياة بعدها ، وإما حال من الموت ، أي ملتبسا بأنه الحق ، أي المفروض المكتوب على الناس فهم محقوقون به ، أو الذي هو الجد ضد العبث كقوله تعالى
خلق السماوات والأرض بالحق مع قوله :
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا .
وقول ذلك إشارة إلى الموت بتنزيل قرب حصوله منزلة الحاصل المشاهد .
و " تحيد " تفر وتهرب ، وهو مستعار للكراهية أو لتجنب أسباب الموت . والخطاب للمقصود من الإنسان وبالمقصود الأول منه وهم المشركون لأنهم أشد كراهية للموت لأن حياتهم مادية محضة فهم يريدون طول الحياة قال تعالى :
ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة إذ لا أمل لهم في حياة أخرى ولا أمل لهم في تحصيل نعيمها ، فأما المؤمنون فإن كراهتهم للموت المرتكزة في الجبلة بمقدار الإلف لا تبلغ بهم إلى حد الجزع منه . وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002470من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، وتأويله بالمؤمن يحب لقاء الله للطمع في الثواب ، وبالكافر يكره لقاء الله . وقد بينه
[ ص: 307 ] النبيء صلى الله عليه وسلم فقال :
إن المؤمن إذا حضرته الوفاة رأى ما أعد الله له من خير فأحب لقاء الله أي والكافر بعكسه ، وقد قال الله تعالى خطابا
لليهود قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم .
وتقديم منه على تحيد للاهتمام بما منه الحياد ، وللرعاية على الفاصلة .