فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد .
تفريع على قوله :
إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب الآية . فإن الإسلام دين قد أنكروه ، واختلافهم في أديانهم يفضي بهم إلى محاجة الرسول في تبرير ما هم عليه من الدين ، وأنهم ليسوا على أقل مما جاء به دين الإسلام .
والمحاجة مفاعلة ولم يجئ فعلها إلا بصيغة المفاعلة . ومعنى المحاجة المخاصمة ، وأكثر استعمال فعل " حاج " في معنى المخاصمة بالباطل : كما في قوله تعالى :
وحاجه قومه وتقدم عند قوله تعالى :
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه في سورة البقرة .
فالمعنى : فإن خاصموك خصام مكابرة
فقل أسلمت وجهي لله .
وضمير الجمع في قوله :
فإن حاجوك عائد إلى غير مذكور في الكلام ، بل معلوم من المقام ، وهو مقام نزول السورة ، أعني قضية
وفد نجران فإنهم الذين اهتموا بالمحاجة حينئذ . فأما المشركون فقد تباعد ما بينهم وبين النبيء - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة ، فانقطعت محاجتهم ،
وأما اليهود فقد تظاهروا بمسالمة المسلمين في المدينة .
ولقد لقن الله رسوله أن يجيب مجادلتهم بقوله :
أسلمت وجهي لله والوجه أطلق على النفس كما في قوله تعالى :
كل شيء هالك إلا وجهه أي ذاته .
[ ص: 201 ] وللمفسرين في المراد من هذا القول طرائق ثلاث : إحداها أنه متاركة وإعراض عن المجادلة أي اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بيانا ، أي : إني أتيت بمنتهى المقدور من الحجة فلم تقتنعوا ، فإذ لم يقنعكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية ، فليست محاجتكم إياي إلا مكابرة وإنكارا للبديهيات والضروريات ، ومباهتة ، فالأجدر أن أكف عن الازدياد . قال
الفخر : فإن المحق إذا ابتلي بالمبطل اللجوج يقول : أما أنا فمنقاد إلى الحق . وإلى هذا التفسير مال
القرطبي .
وعلى هذا الوجه تكون إفادة قطع المجادلة بجملة
أسلمت وجهي لله ومن اتبعني وقوله
أأسلمتم دون أن يقال : فأعرض عنهم وقل سلام - ضربا من الإدماج ; إذ أدمج في قطع المجادلة إعادة الدعوة إلى الإسلام ، بإظهار الفرق بين الدينين .
والقصد من ذلك الحرص على اهتدائهم ، والإعذار إليهم ، وعلى هذا الوجه فإن قوله :
وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم خارج عن الحاجة ، وإنما هو تكرر للدعوة ، أي اترك محاجتهم ولا تترك دعوتهم .
وليس المراد بالحجاج الذي حاجهم به خصوص ما تقدم في الآيات السابقة ، وإنما المراد ما دار بين الرسول وبين وفد
نجران من الحجاج الذي علموه فمنه ما أشير إليه في الآيات السابقة ، ومنه ما طوي ذكره .
الطريقة الثانية أن قوله :
فقل أسلمت وجهي تلخيص للحجة ، واستدراج لتسليمهم إياها ، وفي تقريره وجوه مآلها إلى أن هذا استدلال على كون الإسلام حقا ، وأحسنها ما قال
أبو مسلم الأصفهاني : إن
اليهود والنصارى والمشركين كانوا متفقين على أحقية دين
إبراهيم عليه السلام إلا زيادات زادتها شرائعهم ، فكما أمر الله رسوله أن يتبع ملة
إبراهيم في قوله :
ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا أمره هنا أن يجادل الناس بمثل قول
إبراهيم فإبراهيم قال :
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ومحمد عليه الصلاة والسلام قال :
أسلمت وجهي لله أي فقد قلت ما قاله الله ، وأنتم معترفون بحقيقة ذلك ، فكيف تنكرون أني على الحق ، قال : وهذا من باب التمسك بالإلزامات وداخل تحت قوله :
وجادلهم بالتي هي أحسن .
[ ص: 202 ] الطريقة الثالثة ما قاله
الفخر وحاصله مع بيانه أن يكون هذا مرتبطا بقوله :
إن الدين عند الله الإسلام أي فإن حاجوك في أن الدين عند الله الإسلام ، فقل : إني بالإسلام أسلمت وجهي لله فلا ألتفت إلى عبادة غيره مثلكم ، فديني الذي أرسلت به هو الدين عند الله ، أي هو الدين الحق وما أنتم عليه ليس دينا عند الله .
وعلى الطريقتين الأوليين في كلام المفسرين جعلوا قوله :
وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم خارجا عن الحجة ; إذ لا علاقة بينه وبين كون الإسلام هو ملة
إبراهيم ، ويكون مرادا منه الدعوة إلى الإسلام مرة أخرى بطريقة الاستفهام المستعمل في التحضيض كقوله :
فهل أنتم منتهون أي قل لأولئك : أتسلمون .
وعندي أن التعليق بالشرط لما اقتضى أنه للمستقبل فالمراد بفعل حاجوك الاستمرار على المحاجة : أي فإن استمر
وفد نجران على محاجتهم فقل لهم قولا فصلا جامعا للفرق بين دينك الذي أرسلت به وبين ما هم متدينون به . فمعنى
أسلمت وجهي لله أخلصت عبوديتي له لا أوجه وجهي إلى غيره ، فالمراد أن هذا كنه دين الإسلام ، وتبين أنه الدين الخالص ، وأنهم لا يلفون تدينهم على هذا الوصف .
وقوله :
وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم معطوف على جملة الشرط المفرعة على ما قبلها ، فيدخل المعطوف في التفريع ، فيكون تقدير النظم :
ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فقل للذين كفروا بآيات الله الذين أوتوا الكتاب والأميين :
أأسلمتم ، أي فكرر دعوتهم إلى الإسلام .
والاستفهام مستعمل في الاستبطاء والتحضيض كما في قوله تعالى :
فهل أنتم منتهون . وجيء بصيغة الماضي في قوله :
أأسلمتم دون أن يقول أتسلمون على خلاف مقتضى الظاهر - للتنبيه على أنه يرجو تحقق إسلامهم ، حتى يكون كالحاصل في الماضي .
واعلم أن قوله :
أسلمت وجهي لله كلمة جامعة لمعاني كنه الإسلام وأصوله ألقيت إلى الناس ليتدبروا مطاويها فيهتدي الضالون ، ويزداد المسلمون يقينا بدينهم ; إذ قد علمنا أن مجيء قوله :
أسلمت وجهي لله عقب قوله :
إن الدين عند الله الإسلام وقوله :
فإن حاجوك وتعقيبه بقوله :
أأسلمتم أن المقصود منه بيان جامع معاني الإسلام حتى
[ ص: 203 ] تسهل المجادلة وتختصر المقاولة ، ويسهل عرض المتشككين أنفسهم على هذه الحقيقة ، ليعلموا ما هم عليه من الديانة . بينت هذه الكلمة أن هذا الدين يترجم عن حقيقة اسمه ; فإن اسمه الإسلام ، وهو مفيد معنى معروفا في لغتهم يرجع إلى الإلقاء والتسليم ، وقد حذف مفعوله ونزل الفعل منزلة اللازم فعلم أن المفعول حذف لدلالة معنى الفاعل عليه ، فكأنه يقول : أسلمتني أي أسلمت نفسي ، فبين هنا هذا المفعول المحذوف من اسم الإسلام لئلا يقع فيه التباس أو تأويل لما لا يطابق المراد ، فعبر عنه بقوله : وجهي أي نفسي . لظهور ألا يحسن محمل الوجه هنا على الجزء المعروف من الجسد ، ولا يفيد حمله عليه ما هو المقصود ، بل المعنى البين هو أن يراد بالوجه كامل الذات ، كقوله تعالى :
كل شيء هالك إلا وجهه .
وإسلام النفس لله معناه إسلامها لأجله وصيرورتها ملكا له ، بحيث يكون جميع أعمال النفس في مرضاة الله ، وتحت هذا معان جمة هي جماع الإسلام : نحصرها في عشرة : المعنى الأول : تمام العبودية لله تعالى ، وذلك بألا يعبد غير الله ، وهذا إبطال للشرك لأن المشرك بالله غير الله لم يسلم نفسه بل أسلم بعضها .
المعنى الثاني :
إخلاص العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى ، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله ولا يقدم مرضاة غير الله تعالى على مرضاة الله .
الثالث : إخلاص القول لله تعالى فلا يقول ما لا يرضى به الله ، ولا يصدر عنه قول إلا فيما أذن الله فيه أن يقال ، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، على حسب المقدرة والعلم ، والتصدي للحجة لتأييد مراد الله تعالى ، وهي صفة امتاز بها الإسلام ، ويندفع بهذا المعنى النفاق والملق ، قال تعالى في ذكر رسوله :
وما أنا من المتكلفين .
الرابع : أن يكون ساعيا لتعرف مراد الله تعالى من الناس ، ليجري أعماله على وفقه ، وذلك بالإصغاء إلى دعوة الرسل المخبرين بأنهم مرسلون من الله ، وتلقيها بالتأمل في وجود صدقها ، والتمييز بينها وبين الدعاوى الباطلة ، بدون تحفز للتكذيب ، ولا
[ ص: 204 ] مكابرة في تلقي الدعوة ، ولا إعراض عنها بداعي الهوى ، وهو الإفحام ، بحيث يكون علمه بمراد الله من الخلق هو ضالته المنشودة .
الخامس : امتثال ما أمر الله به ، واجتناب ما نهى عنه على لسان الرسل الصادقين ، والمحافظة على اتباع ذلك بدون تغيير ولا تحريف ، وأن يذود عنه من يريد تغييره .
السادس : ألا يجعل لنفسه حكما مع الله فيما حكم به ، فلا يتصدى للتحكم في قبول بعض ما أمر الله به ونبذ البعض . كما حكى الله تعالى :
وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين وقد وصف الله المسلمين بقوله :
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، فقد أعرض الكفار عن الإيمان بالبعث ; لأنهم لم يشاهدوا ميتا بعث .
السابع : أن يكون متطلبا لمراد الله مما أشكل عليه فيه ، واحتاج إلى جريه فيه على مراد الله ، بتطلبه من إلحاقه بنظائره التامة التنظير بما علم أنه مراد الله ، كما قال الله تعالى :
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولهذا أدخل علماء الإسلام حكم التفقه في الدين والاجتهاد تحت التقوى المأمور بها في قوله تعالى :
فاتقوا الله ما استطعتم .
الثامن : الإعراض عن الهوى المذموم في الدين ، وعن القول فيه بغير سلطان
ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله .
التاسع : أن تكون معاملة أفراد الأمة بعضها بعضا ، وجماعاتها ، ومعاملتها الأمم كذلك - جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات .
العاشر : التصديق بما غيب عنا ، مما أنبأنا الله به : من صفاته ، ومن القضاء والقدر وأن الله هو المتصرف المطلق .
وقوله :
وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم إبطال لكونهم حاصلين على هذا المعنى ، فأما المشركون فبعدهم عنه أشد البعد ظاهر ،
وأما النصارى فقد ألهوا عيسى ، وجعلوا مريم صاحبة لله تعالى . فهذا أصل لبطلان أن يكونوا أسلموا وجوههم
[ ص: 205 ] لله ; لأنهم عبدوا مع الله غيره ، وصانعوا الأمم الحاكمة والملوك ، فأسسوا الدين على حسب ما يلذ لهم ويكسبهم الحظوة عندهم .
وأما اليهود فإنهم - وإن لم يشركوا بالله - قد نقضوا أصول التقوى ، فسفهوا الأنبياء وقتلوا بعضهم ، واستهزءوا بدعوة الخير إلى الله ، وغيروا الأحكام اتباعا للهوى ، وكذبوا الرسل ، وقتلوا الأحبار ، فأنى يكون هؤلاء قد أسلموا لله ، وأكبر مبطل لذلك هو تكذيبهم
محمدا - صلى الله عليه وسلم - دون النظر في دلائل صدقه .
ثم إن قوله :
فإن أسلموا فقد اهتدوا معناه : فإن التزموا النزول إلى التحقق بمعنى
أسلمت وجهي لله فقد اهتدوا ، ولم يبق إلا أن يتبعوك لتلقي ما تبلغهم عن الله ; لأن ذلك أول معاني إسلام الوجه لله ، وإن تولوا وأعرضوا عن قولك لهم : آسلمتم ، فليس عليك من إعراضهم تبعة ،
فإنما عليك البلاغ ، فقوله :
فإنما عليك البلاغ وقع موقع جواب الشرط ، وهو في المعنى علة الجواب ، فوقوعه موقع الجواب إيجاز بديع ، أي لا تحزن ، ولا تظنن أن عدم اهتدائهم ، وخيبتك في تحصيل إسلامهم ، كان لتقصير منك ; إذ لم تبعث إلا للتبليغ ، لا لتحصيل اهتداء المبلغ إليهم .
وقوله :
والله بصير بالعباد أي مطلع عليهم أتم الاطلاع ، فهو الذي يتولى جزاءهم وهو يعلم أنك بلغت ما أمرت به .
وقرأ
نافع ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر " اتبعني " بإثبات ياء المتكلم في الوصل دون الوقف . وقرأ
يعقوب بإثباتها في الحالين ، والباقون بحذفها وصلا ووقفا .