فتول عنهم فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين .
تفريع على قوله
كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلى قوله "
بل هم قوم طاغون " لمشعر بأنهم بعداء عن أن تقنعهم الآيات والنذر فتول عنهم ، أي : أعرض عن الإلحاح في جدالهم ، فقد كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص على إيمانهم ويغتم من أجل عنادهم في كفرهم ، فكان الله يعاود تسليته الفينة بعد الفينة كما قال
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ، فالتولي مراد به هذا المعنى ، وإلا فإن القرآن جاء بعد أمثال هذه الآية بدعوتهم وجدالهم غير مرة قال تعالى
فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون في سورة الصافات .
وفرع على أمره بالتولي عنهم إخباره بأنه لا لوم عليه في إعراضهم عنه ، وصيغ الكلام في صيغة الجملة الاسمية دون : لا نلومك ، للدلالة على ثبات مضمون الجملة في النفي .
وجيء بضمير المخاطب مسندا إليه فقال : "
فما أنت بملوم " دون أن يقول : فلا
[ ص: 24 ] ملام عليك ، أو نحوه للاهتمام للتنويه بشأن المخاطب وتعظيمه .
وزيدت الباء في الخبر المنفي لتوكيد نفي أن يكون ملوما .
وعطف " وذكر " على "
فتول عنهم " احتراس كي لا يتوهم أحد أن الإعراض إبطال للتذكير بل التذكير باق ، فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - ذكر الناس بعد أمثال هذه الآيات فآمن بعض من لم يكن آمن من قبل ، وليكون الاستمرار على التذكير زيادة في إقامة الحجة على المعرضين ، ولئلا يزدادوا طغيانا فيقولوا : ها نحن أولاء قد أفحمناه فكف عما يقوله .
والأمر في " وذكر " مراد به الدوام على التذكير وتجديده .
واقتصر في تعليل الأمر بالتذكير على علة واحدة وهي انتفاع المؤمنين بالتذكير ؛ لأن فائدة ذلك محققة ، ولإظهار العناية بالمؤمنين في المقام الذي أظهرت فيه قلة الاكتراث بالكافرين ، قال تعالى
فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى .
ولذلك فوصف المؤمنين يراد به المتصفون بالإيمان في الحال كما هو شأن اسم الفاعل ، وأما من سيؤمن فعلته مطوية كما علمت آنفا .
والنفع الحاصل من الذكرى هو رسوخ العلم بإعادة التذكير لما سمعوه ، واستفادة علم جديد فيما لم يسمعوه أو غفلوا عنه . ولظهور حجة المؤمنين على الكافرين يوما فيوما ويتكرر عجز المشركين عن المعارضة ، ووفرة الكلام المعجز .