إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر .
هذه الجملة بيان لجملة
سيعلمون غدا من الكذاب الأشر باعتبار ما تضمنته الجملة المبينة ( بفتح الياء ) من الوعيد وتقريب زمانه ، وإن فيه تصديق الرسول الذي كذبوه .
وضمير ( لهم ) جار على مقتضى الظاهر على قراءة الجمهور سيعلمون بياء الغائبة ، وإما على قراءة ابن عامر وحمزة ( ستعلمون ) بتاء الخطاب فضمير ( لهم ) التفات .
وإرسال الناقة إشارة إلى قصة
معجزة صالح أنه أخرج لهم ناقة من صخرة ، وكانت تلك المعجزة مقدمة الأسباب التي عجل لهم العذاب لأجلها ، فذكر هذه القصة في جملة البيان توطئة وتمهيدا .
والإرسال مستعار لجعلها آية
لصالح . وقد عرف خلق خوارق العادات لتأييد الرسل باسم الإرسال في القرآن كما قال تعالى
وما نرسل بالآيات إلا تخويفا فشبهت الناقة بشاهد أرسله الله لتأييد رسوله . وهذا مؤذن بأن في هذه الناقة معجزة ، وقد سماها الله آية في قوله حكاية عنهم وعن صالح
فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة إلخ .
و فتنة لهم حال مقدر ، أي تفتنهم فتنة هي مكابرتهم في دلالتها على صدق رسولهم ، وتقدير معنى الكلام : إنا مرسلو الناقة آية لك وفتنة لهم .
[ ص: 200 ] وضمير لهم عائد إلى المكذبين منهم بقرينة إسناد التكذيب كما تقدم . واسم الفاعل من قوله
مرسلو الناقة مستعمل في الاستقبال مجازا بقرينة قوله
فارتقبهم واصطبر ، فعدل على أن يقال : سنرسل ، إلى صيغة اسم الفاعل الحقيقية في الحال لتقريب زمن الاستقبال من زمن الحال .
والارتقاب : الانتظار ، ارتقب مثل : رقب ، وهو أبلغ دلالة من رقب ، لزيادة المبنى فيه .
وعدي الارتقاب إلى ضميرهم على تقدير مضاف يقتضيه الكلام ، لأنه لا يرتقب ذواتهم وإنما يرتقب أحوالا تحصل لهم . وهذه طريقة إسناد أو تعليق المشتقات التي معانيها لا تسند إلى الذوات فتكون على تقدير مضاف اختصارا في الكلام اعتمادا على ظهور المعنى . وذلك مثل إضافة التحريم والتحليل إلى الذوات في قوله تعالى
حرمت عليكم الميتة . والمعنى : فارتقب ما يحصل لهم من الفتنة عند ظهور الناقة .
والاصطبار : الصبر القوي ، وهو كالارتقاب أيضا أقوى دلالة من الصبر ، أي اصبر صبرا لا يعتريه ملل ولا ضجر ، أي اصبر على تكذيبهم ولا تأيس من النصر عليهم ، وحذف متعلق ( اصطبر ) ليعم كل حال تستدعي الضجر . والتقدير : واصطبر على أذاهم وعلى ما تجده في نفسك من انتظار النصر .
وجملة
ونبئهم أن الماء قسمة بينهم معطوفة على جملة
إنا مرسلو الناقة باعتبار أن الوعد بخلق آية الناقة يقتضي كلاما محذوفا ، تقديره : فأرسلنا لهم الناقة وقلنا نبئهم أن الماء قسمة بينهم على طريقة العطف والحذف في قوله
فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ، وإن كان حرف العطف مختلفا ، ومثل هذا الحذف كثير في إيجاز القرآن .
والتعريف في الماء للعهد ، أي ماء القرية الذي يستقون منه ، فإن لكل محلة ينزلها قوم ماء لسقياهم وقال تعالى
ولما ورد ماء مدين .
وأخبر عن الماء بأنه قسمة . والمراد مقسوم فهو من الإخبار بالمصدر للتأكيد والمبالغة .
[ ص: 201 ] وضمير ( بينهم ) عائد إلى المعلوم من المقام بعد ذكر الماء إذ من المتعارف أن الماء يستقي منه أهل القرية لأنفسهم وماشيتهم ، ولما ذكرت الناقة علم أنها لا تستغني عن الشرب فغلب ضمير العقلاء على ضمير الناقة الواحدة ، وإذ لم يكن للناقة مالك خاص أمر الله لها بنوبة في الماء . وقد جاء في آية سورة الشعراء
قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ، وهذا مبدأ الفتنة ، فقد روي أن الناقة كانت في يوم شربها تشرب ماء البئر كله فشحوا بذلك وأضمروا حلدها عن الماء فأبلغهم
صالح أن الله ينهاهم عن أن يمسوها بسوء .
والمحتضر بفتح الضاد اسم مفعول من الحضور وهو ضد الغيبة . والمعنى : محتضر عنده فحذف المتعلق لحضوره . وهذا من جملة ما أمر رسولهم بأن ينبئهم به ، أي لا يحضر القوم في يوم شرب الناقة ، وهي بإلهام الله لا تحضر في أيام شرب القوم . والشرب بكسر الشين : نوبة الاستقاء من الماء . فنادوا صاحبهم الذي أغروه بقتلها وهو
قدار ( بضم القاف وتخفيف الدال ) بن سالف . ويعرف عند العرب بأحمر ، قال
زهير :
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
يريد
أحمر ثمود لأن
ثمود إخوة
عاد ولم أقف على سبب وصفه بأحمر وأحسب أنه لبياض وجهه . وفي " الحديث بعثت إلى الأحمر والأسود " ، وكان قدار من سادتهم وأهل العزة منهم ، وشبهه النبيء - صلى الله عليه وسلم -
بأبي زمعة يعني الأسود بن المطلب بن أسد في قوله فانتدب لها رجل ذو منعة في قومه
كأبي زمعة أي فأجاب نداءهم فرماها بنبل فقتلها .
وعبر بصاحبهم للإشارة إلى أنهم راضون بفعله إذ هم مصاحبون له وممالئون .
ونداؤهم إياه نداء الإغراء بالناقة ، وإنما نادوه لأنه مشتهر بالإقدام وقلة المبالاة لعزته .
وتعاطى مطاوع عاطاه وهو مشتق من : عطا يعطو ، إذا تناول . وصيغة تفاعل تقتضي تعدد الفاعل ، شبه تخوف القوم من قتلها لما أنذرهم به رسولهم من
[ ص: 202 ] الوعيد وترددهم في الإقدام على قتلها بالمعاطاة ، فكل واحد حين يحجم عن مباشرة ذلك ويشير بغيره كأنه يعطي ما بيده إلى يد غيره حتى أخذه قدار .
وعطف ( فعقر ) بالفاء للدلالة على سرعة إتيانه ما دعوه لأجله .
والعقل : أصله ضرب البعير بالسيف على عراقيبه ليسقط إلى الأرض جاثيا فيتمكن الناحر من نحره ، قال
أبو طالب :
ضروب بنصل السيف سوق سمائها إذا عدموا زادا فإنك عاقر
وغلب إطلاقه على قتل البعير كما هنا إذ ليس المراد أنه عقرها بل قتلها بنبله .