[ ص: 232 ] إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم .
تقدم القول في موقع " إذ " في أمثال هذا المقام عند تفسير قوله تعالى :
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . وموقعها هنا أظهر في أنها غير متعلقة بعامل ، فهي لمجرد الاهتمام بالخبر ولذا قال
أبو عبيدة : ( إذ ) هنا زائدة ، ويجوز أن تتعلق بـ " اذكر " محذوفا ، ولا يجوز تعلقها بـ " اصطفى " : لأن هذا خاص بفضل آل
عمران ، ولا علاقة له بفضل
آدم ونوح وآل
إبراهيم .
وامرأة عمران : حنة بنت فاقوذا . قيل : مات زوجها وتركها حبلى فنذرت حبلها ذلك محررا أي مخلصا لخدمة
بيت المقدس ، وكانوا ينذرون ذلك إذا كان المولود ذكرا . وإطلاق المحرر على هذا المعنى إطلاق تشريف ؛ لأنه لما خلص لخدمة
بيت المقدس فكأنه حرر من أسر الدنيا وقيودها إلى حرية عبادة الله تعالى . قيل : إنها كانت تظنه ذكرا فصدر منها النذر مطلقا عن وصف الذكورة ، وإنما كانوا يقولون : إذا جاء ذكرا فهو محرر . وأنث الضمير في قوله :
فلما وضعتها وهو عائد إلى
ما في بطني باعتبار كونه انكشف ما صدقه على أنثى .
وقولها :
إني وضعتها أنثى خبر مستعمل في إنشاء التحذير لظهور كون المخاطب عليما بكل شيء .
وتأكيد الخبر بـ " إن " مراعاة لأصل الخبرية ، تحقيقا لكون المولود أنثى ; إذ هو بوقوعه على خلاف المترقب لها كان بحيث تشك في كونه أنثى وتخاطب نفسها بنفسها بطريق التأكيد ، فلذا أكدته . ثم لما استعملت هذا الخبر في الإنشاء استعملته برمته على طريقة المجاز المركب المرسل ، ومعلوم أن المركب يكون مجازا بمجموعه لا
[ ص: 233 ] بأجزائه ومفرداته ، وهذا التركيب بما اشتمل عليه من الخصوصيات يحكي ما تضمنه كلامها في لغتها من المعاني : وهي الروعة والكراهية لولادتها أنثى ، ومحاولتها مغالطة نفسها في الإذعان لهذا الحكم ، ثم تحقيقها ذلك لنفسها وتطمينها بها ، ثم التنقل إلى التحسير على ذلك ، فلذلك أودع حكاية كلامها خصوصيات من العربية تعبر عن معان كثيرة قصدتها في مناجاتها بلغتها .
وأنث الضمير في
إني وضعتها أنثى باعتبار ما دلت عليه الحال اللازمة في قولها " أنثى " إذ بدون الحال لا يكون الكلام مفيدا فلذلك أنث الضمير باعتبار تلك الحال .
وقوله :
والله أعلم بما وضعت جملة معترضة ، وقرأ الجمهور : وضعت - بسكون التاء - فيكون الضمير راجعا إلى
امرأة عمران ، وهو حينئذ من كلام الله تعالى وليس من كلامها المحكي ، والمقصود منه : أن الله أعلم منها بنفاسة ما وضعت ، وأنها خير من مطلق الذكر الذي سألته ، فالكلام إعلام لأهل القرآن بتغليطها ، وتعليم بأن
من فوض أمره إلى الله لا ينبغي أن يتعقب تدبيره .
وقرأ
ابن عامر ، وأبو بكر عن
عاصم ، ويعقوب : بضم التاء ، على أنها ضمير المتكلمة
امرأة عمران فتكون الجملة من كلامها المحكي ، وعليه فاسم الجلالة التفات من الخطاب إلى الغيبة ، فيكون قرينة لفظية على أن الخبر مستعمل في التحسر .
وجملة
وليس الذكر كالأنثى خبر مستعمل في التحسر لفوات ما قصدته من أن يكون المولود ذكرا ، فتحرره لخدمة
بيت المقدس .
وتعريف الذكر تعريف الجنس لما هو مرتكز في نفوس الناس من الرغبة في مواليد الذكور ، أي ليس جنس الذكر مساويا لجنس الأنثى .
وقيل : التعريف في
وليس الذكر كالأنثى تعريف العهد للمعهود في نفسها . وجملة
وليس الذكر تكملة للاعتراض المبدوء بقوله :
والله أعلم بما وضعت والمعنى : وليس الذكر الذي رغبت فيه بمساو للأنثى التي أعطيتها لو كانت تعلم علو شأن هاته الأنثى ، وجعلوا نفي المشابهة على بابه من نفي مشابهة المفضول للفاضل ، وإلى هذا مال صاحب الكشاف وتبعه صاحب المفتاح ، والأول أظهر .
[ ص: 234 ] ونفي المشابهة بين الذكر والأنثى يقصد به معنى التفضيل في مثل هذا المقام ، وذلك في قول العرب : ليس سواء كذا وكذا ، وليس كذا مثل كذا ، ولا هو مثل كذا ، كقوله تعالى : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون . وقوله :
يا نساء النبيء لستن كأحد من النساء ، وقول
السموأل :
فليس سواء عالم وجهول
، وقولهم : ( مرعى ولا كالسعدان ، وماء ولا كصدى ) .
ولذلك لا يتوخون أن يكون المشبه في مثله أضعف من المشبه به ; إذ لم يبق للتشبيه أثر ، ولذلك قيل هنا :
وليس الذكر كالأنثى ، ولو قيل : وليست الأنثى كالذكر لفهم المقصود . ولكن قدم الذكر هنا لأنه هو المرجو المأمول فهو أسبق إلى لفظ المتكلم . وقد يجيء النفي على معنى كون المشبه المنفي أضعف من المشبه به كما قال
الحريري في المقامة الرابعة ( غدوت قبل استقلال الركاب ، ولا اغتداء اغتداء الغراب ) وقال في الحادية عشرة : ( وضحكتم وقت الدفن ، ولا ضحككم ساعة الزفن ) وفي الرابعة عشرة : ( وقمت لله ولا
nindex.php?page=showalam&ids=16711كعمرو بن عبيد ) . فجاء بها كلها على نسق ما في هذه الآية .
وقوله :
وإني سميتها مريم الظاهر أنها أرادت تسميتها باسم أفضل نبيئة في
بني إسرائيل وهي
مريم أخت
موسى وهارون ، وخولها ذلك أن أباها سمي أبي
مريم أخت موسى .
وتكرر التأكيد في
وإني سميتها و
وإني أعيذها بك للتأكيد : لأن حال كراهيتها يؤذن بأنها ستعرض عنها فلا تشتغل بها ، وكأنها أكدت هذا الخبر إظهارا للرضا بما قدر الله تعالى ، ولذلك انتقلت إلى الدعاء لها الدال على الرضا والمحبة ، وأكدت جملة
أعيذها مع أنها مستعملة في إنشاء الدعاء : لأن الخبر مستعمل في الإنشاء برمته التي كان عليها وقت الخبرية ، كما قدمناه في قوله تعالى :
إني وضعتها أنثى وكقول
أبي بكر : إني استخلفت عليكم
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب .