إنا كل شيء خلقناه بقدر .
استئناف وقع تذييلا لما قبله من الوعيد والإنذار والاعتبار بما حل بالمكذبين ، وهو أيضا توطئة لقوله
وما أمرنا إلا واحدة إلخ .
والمعنى : إنا خلقنا وفعلنا كل ما ذكر من الأفعال وأسبابها وآلاتها وسلطناه على مستحقيه لأنا خلقنا كل شيء بقدر ، أي فإذا علمتم هذا فانتبهوا إلى أن ما أنتم عليه من التكذيب والإصرار مماثل لما كانت عليه الأمم السالفة .
واقتران الخبر بحرف ( إن ) يقال فيه ما قلناه في قوله
إن المجرمين في ضلال وسعر ؟ .
[ ص: 217 ] والخلق أصله : إيجاد ذات بشكل مقصود فهو حقيقة في إيجاد الذوات ، ويطلق مجازا على إيجاد المعاني التي تشبه الذوات في التميز والوضوح كقوله تعالى
وتخلقون إفكا .
فإطلاقه في قوله
إنا كل شيء خلقناه بقدر من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه .
و ( شيء ) معناه موجود من الجواهر والأعراض ، أي : خلقنا كل الموجودات جواهرها وأعراضها بقدر .
والقدر : بتحريك الدال مرادف القدر بسكونها وهو تحديد الأمور وضبطها .
والمراد : أن خلق الله الأشياء مصاحب لقوانين جارية على الحكمة ، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن كقوله في سورة الرعد
وكل شيء عنده بمقدار ومما يشمله عموم كل شيء خلق جهنم للعذاب .
وقد أشار إلى أن الجزاء من مقتضى الحكمة قوله تعالى
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون وقوله
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم وقوله
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين فترى هذه الآيات وأشباهها تعقب ذكر كون الخلق كله لحكمة بذكر الساعة ويوم الجزاء . فهذا وجه تعقيب آيات الإنذار والعقاب المذكورة في هذه السورة بالتذييل بقوله
إنا كل شيء خلقناه بقدر بعد قوله
أكفاركم خير من أولئكم وسيقول
ولقد أهلكنا أشياعكم .
فالباء في بقدر للملابسة ، والمجرور ظرف مستقر ، فهو في حكم المفعول الثاني لفعل خلقناه لأنه مقصود بذاته ، إذ ليس المقصود الإعلام بأن كل شيء مخلوق لله ، فإن ذلك لا يحتاج إلى الإعلام به بله تأكيده بل المقصود إظهار معنى العلم والحكمة في الجزاء كما في قوله تعالى في سورة الرعد
وكل شيء عنده بمقدار .
[ ص: 218 ] ومما يستلزمه معنى القدر أن كل شيء مخلوق هو جار على وفق علم الله وإرادته لأنه خالق أصول الأشياء وجاعل القوى فيها لتنبعث عنها آثارها ومتولداتها ، فهو عالم بذلك ومريد لوقوعه . وهذا قد سمي بالقدر في اصطلاح الشريعة كما جاء في حديث
جبريل الصحيح في ذكر ما يقع به الإيمان
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002537وتؤمن بالقدر خيره وشره .
وأخرج
مسلم ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة nindex.php?page=hadith&LINKID=2002538جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القدر فنزلت يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر . ولم يذكر راوي الحديث معنى القدر الذي خاصم فيه
كفار قريش فبقي مجملا ويظهر أنهم خاصموا جدلا ليدفعوا عن أنفسهم التعنيف بعبادة الأصنام كما قالوا
لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، أي جدلا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - بموجب ما يقوله من أن كل كائن بقدر الله جهلا منهم بمعاني القدر .
قال
عياض في الإكمال ظاهره أن المراد بالقدر هنا مراد الله ومشيئته وما سيق به قدره من ذلك ، وهو دليل مساق القصة التي نزلت بسببها الآية اهـ . وقال
الباجي في المنتقى : يحتمل من جهة اللغة معاني : أحدها : أن يكون القدر هاهنا بمعنى مقدر لا يزاد عليه ولا ينقص كما قال تعالى
قد جعل الله لكل شيء قدرا .
والثاني : أن المراد أنه بقدرته ، كما قال
بلى قادرين على أن نسوي بنانه .
والثالث : بقدر ، أي نخلقه في وقته ، أي نقدر له وقتا نخلقه فيه اهـ .
قلت : وإذا كان لفظ قدر جنسا ، ووقع معلقا بفعل متعلق بضمير كل شيء الدال على العموم كان ذلك اللفظ عاما للمعاني كلها فكل ما خلقه الله فخلقه بقدر ، وسبب النزول لا يخصص العموم ، ولا يناكد موقع هذا التذييل ، على أن السلف كانوا يطلقون سبب النزول على كل ما نزلت الآية للدلالة عليه ولو كانت الآية سابقة على ما عدوه من السبب .
واعلم أن الآية صريحة في أن كل ما خلقه الله كان بضبط جاريا على حكمة ،
[ ص: 219 ] وأما تعيين ما خلقه الله مما ليس مخلوقا له من أفعال العباد مثلا عند القائلين بخلق العباد أفعالهم كالمعتزلة والقائلين بكسب العبد كالأشعرية ، فلا حجة بالآية عليهم لاحتمال أن يكون مصب الإخبار هو مضمون ( خلقناه ) أو مضمون ( بقدر ) ، ولاحتمال عموم كل شيء للتخصيص ، ولاحتمال المراد بالشيء ما هو ، وليس نفي حجية هذه الآية على إثبات القدر الذي هو محل النزاع بين الناس بمبطل ثبوت القدر من أدلة أخرى .
وحقيقة القدر الاصطلاحي خفية فإن مقدار تأثر الكائنات بتصرفات الله تعالى وبتسبب أسبابها ونهوض موانعها لم يبلغ علم الإنسان إلى كشف غوامضه ومعرفة ما مكن الله الإنسان من تنفيذ لما قدره الله ، والأدلة الشرعية والعقلية تقتضي أن الأعمال الصالحة والأعمال السيئة سواء في التأثر لإرادة الله تعالى وتعلق قدرته إذا تعلقت بشيء ، فليست نسبة آثار الخير إلى الله دون نسبة أثر الشر إليه إلا أدبا مع الخالق لقنه الله عبيده ، ولولا أنها منسوبة في التأثر لإرادة الله تعالى لكانت التفرقة بين أفعال الخير وأفعال الشر في النسبة إلى الله ملحقة باعتقاد المجوس بأن للخير إلها وللشر إلها ، وذلك باطل لقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - وتؤمنوا بالقدر خيره وشره ، وقوله : القدرية مجوس هذه الأمة رواه أبو داود بسنده إلى ابن عمر مرفوعا .
وانتصب كل شيء على المفعولية ل خلقناه على طريقة الاشتغال ، وتقديمه على خلقناه ليتأكد مدلوله بذكر اسمه الظاهر ابتداء ، وذكر ضميره ثانيا ، وذلك هو الذي يقتضي العدول إلى الاشتغال في فصيح الكلام العربي فيحصل توكيد للمفعول بعد أن حصل تحقيق نسبة الفعل إلى فاعله بحرف ( إن ) المفيد لتوكيد الخبر وليتصل قوله ( بقدر ) بالعامل فيه وهو خلقناه ، لئلا يلتبس بالنعت لشيء لو قيل : إنا خلقنا كل شيء بقدر ، فيظن أن المراد : أنا خلقنا كل شيء مقدر فيبقى السامع منتظرا لخبر ( إن ) .