إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما إنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون .
تعليل لما يلقاه أصحاب الشمال من العذاب ، فيتعين أن ما تضمنه هذا التعليل كان من أحوال كفرهم وأنه مما له أثر في إلحاق العذاب بهم بقرينة عطف
وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون إلخ عليه .
فأما إصرارهم على الحنث وإنكارهم البعث فلا يخفى تسببه في العذاب لأن الله توعدهم عليه فلم يقلعوا عنه ، وإنما يبقى النظر في قوله
إنهم كانوا قبل ذلك مترفين فإن الترف في العيش ليس جريمة في ذاته وكم من مؤمن عاش في ترف ، وليس كل كافر مترفا في عيشه ، فلا يكون الترف سببا مستقلا في تسبب الجزاء الذي عوملوا به .
فتأويل هذا التعليل : إما بأن يكون الإتراف سببا باعتبار ضميمة ما ذكر بعده إليه بأن كان إصرارهم على الحنث وتكذيبهم بالبعث جريمتين عظيمتين لأنهما محفوفتان بكفر نعمة الترف التي خولهم الله إياها على نحو قوله تعالى
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون فيكون الإتراف جزء سبب وليس سببا مستقلا ، وفي هذا من معنى قوله تعالى
وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا .
وإما أن يراد بأن الترف في العيش علق قلوبهم بالدنيا واطمأنوا بها فكان ذلك ممليا على خواطرهم إنكار الحياة الآخرة ، فيكون المراد الترف الذي هذا الإنكار عارض له وشديد الملازمة له ، فوازنه وازن قوله تعالى
والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم .
[ ص: 306 ] وفسر مترفين بمعنى متكبرين عن قبول الحق . والمترف : اسم مفعول من أترفه ، أي جعله ذا ترفة بضم التاء وسكون الراء ، أي نعمة واسعة ، وبناؤه للمجهول لعدم الإحاطة بالفاعل الحقيقي للإتراف كشأن الأفعال التي التزم فيها الإسناد المجازي العقلي الذي ليس لمثله حقيقة عقلية ، ولا يقدر بنحو : أترفه الله ، لأن العرب لم يكونوا يقدرون ذلك فهذا من باب : قال قائل ، وسأل سائل .
وإنما جعل أهل الشمال مترفين لأنهم لا يخلو واحد منهم عن ترف ولو في بعض أحواله وأزمانه من نعم الأكل والشرب والنساء والخمر ، وكل ذلك جدير بالشكر لواهبه ، وهم قد لابسوا ذلك بالإشراك في جميع أحوالهم ، أو لأنهم لما قصروا أنظارهم على التفكير في العيشة العاجلة صرفهم ذلك عن النظر والاستدلال على صحة ما يدعوهم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذا وجه جعل الترف في الدنيا من أسباب جزائهم الجزاء المذكور .
والإشارة في قوله قبل ذلك إلى
سموم وحميم وظل من يحموم بتأويلها بالمذكور ، أي كانوا قبل اليوم وهو ما كانوا عليه في الحياة الدنيا .
والحنث : الذنب والمعصية وما يتحرج منه ، ومنه قولهم : حنث في يمينه ، أي أهمل ما حلف عليه فجر لنفسه حرجا .
ويجوز أن يكون الحنث حنث اليمين فإنهم كانوا يقسمون على أن لا بعث ، قال تعالى
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ، فذلك من الحنث العظيم ، وقال تعالى
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها وقد جاءتهم آية إعجاز القرآن فلم يؤمنوا به .
والعظيم : القوي في نوعه ، أي الذنب الشديد والحنث العظيم هو الإشراك بالله . وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أنه قال قلت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002555يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تدعو لله ندا وهو خلقك وقال تعالى
إن الشرك لظلم عظيم .
[ ص: 307 ] ومعنى يصرون : يثبتون عليه لا يقبلون زحزحة عنه ، أي لا يضعون للدعوة إلى النظر في بطلان عقيدة الشرك .
وصيغة المضارع في يصرون ويقولون تفيد تكرر الإصرار والقول منه . وذكر فعل كانوا لإفادة أن ذلك ديدنهم .
والمراد من قوله وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا إلخ أنهم كانوا يعتقدون استحالة البعث بعد تلك الحالة .
ويناظرون في ذلك بأن القول ذلك يستلزم أنهم يعتقدون استحالة البعث .
والاستفهام إنكاري كناية عن الإحالة والاستبعاد ، وتقدم نظير أإذا متنا وكنا ترابا إلخ في سورة الصافات .
وقرأ الجمهور أإذا متنا بإثبات الاستفهام الأول والثاني ، أي إذا متنا أإنا . وقرأه
نافع ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
وأبو جعفر بالاستفهام في أإذا متنا والإخبار في ( إنا لمبعوثون ) .
وقرأ الجمهور أوآباؤنا بفتح الواو على أنها واو عطف عطفت استفهاما على استفهام ، وقدمت همزة الاستفهام على حرف عطف لصدارة الاستفهام ، وأعيد الاستفهام توكيدا للاستبعاد . والمراد بالقول في قوله
وكانوا يقولون إلخ أنهم يعتقدون استجابة مدلول ذلك الاستفهام .