[ ص: 263 ] إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين .
استئناف بياني : بين به ما نشأ من الأوهام عند
النصارى ، عن
عيسى بأنه كلمة من الله ، فضلوا بتوهمهم أنه ليس خالص الناسوت . وهذا
شروع في إبطال عقيدة النصارى من تأليه عيسى ، ورد مطاعنهم في الإسلام وهو أقطع دليل بطريق الإلزام ; لأنهم قالوا بإلهية
عيسى من أجل أنه خلق بكلمة من الله وليس له أب ، فقالوا : هو ابن الله ، فأراهم الله أن
آدم أولى بأن يدعى له ذلك ، فإذا لم يكن
آدم إلها مع أنه خلق بدون أبوين
فعيسى أولى بالمخلوقية من
آدم .
ومحل التمثيل كون كليهما من دون أب ، ويزيد
آدم بكونه من دون أم أيضا ، ولذلك احتيج إلى ذكر وجه الشبه بقوله : خلقه من تراب ، الآية أي خلقه دون أب ولا أم بل بكلمة كن ، مع بيان كونه أقوى في المشبه به على ما هو الغالب . وإنما قال عند الله أي نسبته إلى الله لا تزيد على
آدم في كونه خلقا غير معتاد لكم لأنهم جعلوا خلقه العجيب موجبا للمسيح نسبة خاصة عند الله وهي البنوة . وقال
ابن عطية : أراد الله بقوله : عند الله - نفس الأمر الواقع .
والضمير في " خلقه "
لآدم لا
لعيسى ; إذ قد علم الكل أن
عيسى لم يخلق من تراب ، فمحل التشبيه قوله :
ثم قال له كن فيكون .
وجملة " خلقه " وما عطف عليها مبينة لجملة كمثل آدم .
و " ثم " للتراخي الرتبي فإن تكوينه بأمر " كن " أرفع رتبة من خلقه من تراب ، وهو أسبق في الوجود والتكوين المشار إليه بـ " كن " : هو تكوينه على الصفة المقصودة ، ولذلك لم يقل : كونه من تراب ، ولم يقل : قال له كن من تراب ثم أحياه ، بل قال خلقه ثم قال له كن . وقول " كن " تعبير عن تعلق القدرة بتكوينه حيا ذا روح ليعلم السامعون أن التكوين ليس بصنيع يد ، ولا نحت بآلة ، ولكنه بإرادة وتعلق قدرة وتسخير الكائنات التي لها أثر في تكوين المراد ، حتى تلتئم وتندفع إلى إظهار المكون ، وكل ذلك
[ ص: 264 ] عن توجه الإرادة بالتنجيز ، فبتلك الكلمة كان
آدم أيضا كلمة من الله ولكنه لم يوصف بذلك لأنه لم يقع احتياج إلى ذلك لفوات زمانه .
وإنما قال " فيكون " ولم يقل " فكان " لاستحضاره صورة تكونه ، ولا يحمل المضارع في مثل هذا إلا على هذا المعنى ، مثل قوله :
والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا وحمله على غير هذا هنا لا وجه له .
وقوله :
الحق من ربك ، خبر مبتدأ محذوف : أي هذا الحق . و " من ربك " حال من الحق . والخطاب في فلا تكن من الممترين للنبيء - صلى الله عليه وسلم - والمقصود التعريض بغيره ، والمعرض بهم هنا هم
النصارى الممترون الذين امتروا في الإلهية بسبب تحقق أن لا أب
لعيسى .