قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين .
أعقب تمثيل حال جهلهم بالتوراة بذكر زعم من آثار جهلهم بها إبطالا لمفخرة مزعومة عندهم أنهم أولياء الله وبقية الناس ليسوا مثلهم . وذلك أصل كانوا يجعلونه حجة على أن شئونهم أفضل من شئون غيرهم . ومن ذلك أنهم كانوا يفتخرون بأن الله جعل لهم السبت أفضل أيام الأسبوع وأنه ليس للأميين مثله فلما جعل الله الجمعة للمسلمين اغتاظوا ، وفي الكشاف افتخر
اليهود بالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة .
وافتتح بفعل قل للاهتمام .
و
الذين هادوا : هم الذين كانوا يهودا ، وتقدم وجه تسمية
اليهود يهودا عند قوله تعالى
إن الذين آمنوا والذين هادوا في سورة البقرة . ويجوز أن يكون ( هادوا ) بمعنى تابوا لقول
موسى عليه السلام بعد أن أخذتهم الرجفة :
إنا هدنا إليك كما تقدم في سورة الأعراف . وأشهر وصف
بني إسرائيل في القرآن بأنهم هود جمع هائد مثل قعود جمع قاعد . وأصل هود هوود وقد تنوسي منه هذا المعنى وصار علما بالغلبة على
بني إسرائيل فنودوا به هنا بهذا الاعتبار لأن المقام ليس مقام ثناء عليهم أو هو تهكم .
وجيء ب ( إن ) الشرطية التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط مع أن الشرط هنا محقق الوقوع إذ قد اشتهروا بهذا الزعم وحكاه القرآن عنهم في سورة العقود
[ ص: 216 ] وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه للإشارة إلى أن زعمهم هذا لما كان باطلا بالدلائل كان بمنزلة الشيء الذي يفرض وقوعه كما يفرض المستبعد وكأنه ليس واقعا على طريقة قوله تعالى
أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ويفيد ذلك توبيخا بطريق الكناية .
والمعنى : إن كنتم صادقين في زعمكم فتمنوا الموت . وهذا إلجاء لهم حتى يلزمهم ثبوت شكهم فيما زعموه .
والأمر في قوله ( فتمنوا ) مستعمل في التعجيز : كناية عن التكذيب مثل قوله تعالى
قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين .
ووجه الملازمة بين الشرط وجوابه أن الموت رجوع الإنسان بروحه إلى حياة أبدية تظهر فيها آثار رضا الله عن العبد أو غضبه ليجزيه على حسب فعله .
والنتيجة الحاصلة من هذا الشرط تحصل أنهم مثل جميع الناس في الحياتين الدنيا والآخرة وآثارهما ، واختلاف أحوال أهلهما ، فيعلم من ذلك أنهم ليسوا أفضل من الناس . وهذا ما دل عليه قوله تعالى
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق .
وبهذا يندفع ما قد يعرض للناظر في هذه الآية من المعارضة بينها وبين ما جاء في الأخبار الصحيحة من
النهي عن تمني الموت . وما روي أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002639من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، فقالت عائشة : إنا نكره الموت فقال لها ليس ذلك الحديث . وما روي عنه أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002640أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت إلى قوله قال موسى فالآن .
ذلك أن شأن المؤمنين أن يكونوا بين الرجاء والخوف من الله ، وليسوا يتوهمون أن الفوز مضمون لهم كما توهم
اليهود .
فما تضمنته هذه الآية حكاية عن حال
اليهود الموجودين يومئذ ، وهم عامة غلبت عليهم الأوقام والغرور بعد انقراض علمائهم ، فهو حكاية عن مجموع قوم . وأما الأخبار التي أوردناها فوصف لأحوال معينة وأشخاص معينين فلا
[ ص: 217 ] تعارض مع اختلاف الأحوال والأزمان ، فلو حصل لأحد يقين بالتعجيل إلى النعيم لتمنى الموت إلا أن تكون حياته لتأييد الدين كحياة الأنبياء .
فعلى الأول يحمل حال
عمير بن الحمام في قوله :
جريا إلى الله بغير زاد
وحال
nindex.php?page=showalam&ids=315جعفر بن أبي طالب يوم موتة وقد اقتحم صف المشركين :
يا حبذا الجنة واقترابها
وقول
nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة :
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
المتقدمة في سورة البقرة لأن الشهادة مضمونة الجزاء الأحسن والمغفرة التامة .
وعلى الثاني يحمل قول النبيء - صلى الله عليه وسلم -
لعائشة في تأويل قوله
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002641من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله . وقول
موسى عليه السلام لملك الموت : فالآن .