يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار .
أعيد خطاب المؤمنين وأعيد نداؤهم وهو نداء ثالث في هذه السورة . والذي قبله نداء للواعظين . وهذا نداء للموعوظين وهذا الأسلوب من أساليب الإعراض المهتم بها .
أمر المؤمنون بالتوبة من الذنوب إذا تلبسوا بها لأن ذلك من إصلاح أنفسهم بعد أن أمروا بأن يجنبوا أنفسهم وأهليهم ما يزج بهم في عذاب النار ، لأن اتقاء النار يتحقق باجتناب ما يرمي بهم فيها ، وقد يذهلون عما فرط من سيئاتهم فهدوا إلى سبيل التوبة التي يمحون بها ما فرط من سيئاتهم .
وهذا ناظر إلى ما ذكر من موعظة امرأتي النبيء - صلى الله عليه وسلم - بقوله (
إن تتوبا إلى الله ) .
والتوبة : العزم على عدم العود إلى العصيان مع الندم على ما فرط منه فيما مضى . وتقدمت عند قوله تعالى (
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ) في
[ ص: 368 ] سورة البقرة . وفي مواضع أخرى وخاصة عند قوله تعالى (
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ) في سورة النساء . وتعديتها بحرف ( إلى ) لأنها في معنى الرجوع لأن تاب أخو ثاب .
والنصوح : ذو النصح .
والنصح : الإخلاص في العمل . والقول ، أي الصدق في إرادة النفع بذلك . ووصف التوبة بالنصوح مجاز جعلت التوبة التي لا تردد فيها ولا تخالطها نية العودة إلى العمل المتوب منه بمنزلة الناصح لغيره ففي نصوح استعارة وليس من المجاز العقلي إذ ليس المراد نصوحا صاحبها .
وإنما لم تلحق وصف ( نصوح ) هاء التأنيث المناسبة لتأنيث الموصوف به لأن فعولا بمعنى فاعل يلازم الإفراد والتذكير .
وقرأ الجمهور ( نصوحا ) بفتح النون على معنى الوصف كما علمت . وقرأه
أبو بكر عن
عاصم بضم النون على أنه مصدر نصح مثل : القعود من قعد . وزعم
الأخفش أن الضم غير معروف والقراءة حجة عليه .
ومن شروط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما وقع التفريط فيه مثل المظالم للقادر على ردها . روي عن
علي رضي الله عنه يجمع التوبة ستة أشياء : الندامة على الماضي من الذنوب ، وإعادة الفرائض . ورد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي .
وتقوم مقام رد المظالم استحلال المظلوم حتى يعفو عنه .
ومن تمام التوبة تمكين التائب من نفسه أن ينفذ عليها الحدود كالقود والضرب . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين : هذا التمكين واجب خارج عن حقيقة التوبة لأن التائب إذا ندم ونوى أن لا يعود صحت توبته عند الله وكان منعه من تمكين نفسه معصية متجددة تستدعي توبة .
وهو كلام وجيه إذ التمكين من تنفيذ ذلك يشق على النفوس مشقة عظيمة فلها عذر في الإحجام عن التمكين منه .
[ ص: 369 ] وتصح
التوبة من ذنب دون ذنب خلافا
nindex.php?page=showalam&ids=12187لأبي هاشم الجبائي المعتزلي ، وذلك فيما عدا التوبة من الكفر .
وأما التوبة من الكفر بالإيمان فصحيحة في غفران إثم الكفر ولو بقي متلبسا ببعض الكبائر بإجماع علماء الإسلام .
والذنوب التي تجب منها التوبة هي الكبائر ابتداء ، وكذلك الصغائر وتمييز الكبائر من الصغائر مسألة أخرى محلها أصول الدين وأصول الفقه والفقه .
إلا أن الله تفضل على المسلمين فغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ، أخذ ذلك من قوله تعالى (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) وقد مضى القول فيه في تفسير سورة النجم .
ولو عاد التائب إلى بعض الذنوب أو جميعها ما عدا الكفر اختلف فيه علماء الأمة فالذي ذهب إليه أهل السنة أن التوبة تنتقض بالعودة إلى بعض الذنوب في خصوص الذنب المعود إليه ولا تنتقض فيما سواه . وأن العود معصية تجب التوبة منها . وقال
المعتزلة ، تنتقض بالعودة إلى بعض الذنوب فتعود إليه ذنوبه ووافقهم
الباقلاني .
وليس في أدلة الكتاب والسنة ما يشهد لأحد الفريقين .
والرجاء المستفاد من فعل ( عسى ) مستعمل في الوعد الصادر عن المتفضل على طريقة الاستعارة وذلك التائب لا حق له في أن يعفى عنه ما اقترفه لأن العصيان قد حصل وإنما التوبة عزم على عدم العودة إلى الذنب ولكن ما لصاحبها من الندم والخوف الذي بعث على العزم دل على زكاء النفس فجعل الله جزاءه أن يمحو عنه ما سلف من الذنوب تفضلا من الله فذلك معنى الرجاء المستفاد من ( عسى ) .
وقد أجمع علماء الإسلام على أن
التوبة من الكفر بالإيمان مقبولة قطعا لكثرة أدلة الكتاب والسنة ، واختلفوا في تعين قبول توبة العاصي من المؤمنين ، فقال جمهور أهل السنة : قبولها مرجو غير مقطوع وممن قال به
الباقلاني nindex.php?page=showalam&ids=12441وإمام الحرمين . وعن
الأشعري أنه مقطوع به سمعا
والمعتزلة مقطوع به عقلا .
وتكفير السيئات : غفرانها ، وهو مبالغة في كفر المخفف المتعدي الذي هو مشتق من الكفر بفتح الكاف ، أي الستر .