فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون
الفاء للتفريع على قوله
ما أنت بنعمة ربك بمجنون باعتبار ما اقتضاه قوله
بنعمة ربك من إبطال مقالة قيلت في شأنه قالها أعداؤه في الدين ، ابتدأ بإبطال بهتانهم ، وفرع عليه أنهم إذا نظروا الدلائل وتوسموا الشمائل علموا أي الفريقين المفتون . أهم مفتونون بالانصراف عن الحق والرشد ، أم هو باختلال العقل كما اختلقوا ؟
والمقصود هو ما في قوله ( ويبصرون ) ولكن أدمج فيه قوله ( فستبصر ) ليتأتى بذكر الجانبين إيقاع كلام منصف ( أي داع إلى الإنصاف ) على طريقة قوله
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين لأن القرآن يبلغ مسامعهم ويتلى عليهم .
وفعلا (
تبصر ويبصرون ) ، بمعنى البصر الحسي . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن معناه فستعلم ويعلمون ، فجعله مثل استعمال فعل الرؤية في معنى الظن ، فلعله أراد تفسير حاصل المعنى إذ قد قيل إن الفعل المشتق من ( أبصر ) لا يستعمل بمعنى الظن والاعتقاد عند جمهور اللغويين والنحاة خلافا
لهشام كذا في التسهيل ، فالمعنى : سترى ويرون رأي العين أيكم المفتون ، فإذا كان بمعنى العلم فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قد رأى ذلك . فالسين في قوله ( فستبصر ) للتأكيد ، وأما المشركون فسيرون ذلك ، أي يعلمون آثار فتونهم وذلك فيما يرونه يوم بدر ويوم الفتح .
وإن كان بمعنى البصر الحسي فالسين والتاء في كلا الفعلين للاستقبال .
وضمير ( يبصرون ) عائد إلى معلوم مقدر عند السامع وهم المشركون القائلون : هو مجنون .
[ ص: 66 ] و ( أي ) اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه ، ويظهر أن مدلول ( أي ) فرد أو طائفة متميز عن مشارك في طائفته من جنس أو وصف بممييز واقعي أو جعلي . فهذا مدلول ( أي ) في جميع مواقعه . وله مواقع كثيرة في الكلام ، فقد يشرب ( أي ) معنى الموصول ، ومعنى الشرط ، ومعنى الاستفهام ، ومعنى التنويه بكامل ، ومعنى المعرف ب ( أل ) إذا وصل بندائه . وهو في جميع ذلك يفيد شيئا متميزا عما يشاركه في طائفته المدلولة بما أضيف هو إليه ، فقوله تعالى
بأييكم المفتون معناه : أي رجل ، أو أي فريق منكم المفتون ، ف ( أي ) في موقعه هنا اسم في موقع المفعول ل (
تبصر ويبصرون ) أو متعلق به تعلق المجرور .
وقد تقدم استعمال ( أي ) في الاستفهام عند قوله تعالى
فبأي حديث بعده يؤمنون في سورة الأعراف .
المفتون : اسم مفعول وهو الذي أصابته فتنة ، فيجوز أن يراد بها الجنون فإن الجنون يعد في كلام العرب من قبيل الفتنة " يقولون للمجنون فتنته الجن " ويجوز أن يراد ما يصدق على المضطرب في أمره المفتون في عقله حيرة وتقلقلا ، بإيثار هذا اللفظ ، دون لفظ المجنون من الكلام الموجه أو التورية ليصح فرضه للجانبين .
فإن لم يكن بعض المشركين بمنزلة المجانين الذين يندفعون إلى مقاومة النبيء - صلى الله عليه وسلم - بدون تبصر يكن في فتنة اضطراب أقواله وأفعاله
كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما الذين أغروا العامة بالطعن في النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأقوال مختلفة .
والباء على هذا الوجه مزيدة لتأكيد تعلق الفعل بمفعوله ، والأصل : أييكم المفتون ، فهي كالباء في قوله
وامسحوا برءوسكم . ويجوز أن تكون الباء للظرفية . والمعنى : في أي الفريقين منكم يوجد المجنون ، أي من يصدق عليه هذا الوصف ، فيكون تعريضا
بأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من مدبري السوء على دهماء
قريش بهذه الأقوال الشبيهة بأقوال المجانين ذلك أنهم وصفوا رجلا معروفا بين العقلاء مذكورا برجاحة العقل والأمانة في الجاهلية فوصفوه بأنه مجنون فكانوا كمن زعم أن النهار ليل ومن وصف اليوم الشديد البرد بالحرارة ، فهذا شبه بالمجنون ولذلك يجعل ( المفتون ) في الآية وصفا ادعائيا على طريقة التشبيه البليغ كما
[ ص: 67 ] جعل
nindex.php?page=showalam&ids=15155المتنبي القوم الذين تركوا نزيلهم يرحل عنهم مع قدرتهم على إمساكه راحلين عن نزيلهم في قوله :
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون همو
ويجوز أن يكون ( المفتون ) مصدرا على وزن المفعول مثل المعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجلد ، والميسور لليسر ، والمعسور لضده ، وفي المثل " خذ من ميسوره ودع معسوره " .
والباء على هذا للملابسة في محل خبر مقدم على ( المفتون ) وهو مبتدأ .
يضمن فعل (
تبصر ويبصرون ) معنى : توقن ويوقنون ، على طريق الكناية بفعل الإبصار عن التحقق ؛ لأن أقوى طرق الحس حاسة البصر ويكون الإتيان بالباء للإشارة إلى هذا التضمين . والمعنى : فستعلم يقينا ويعلمون يقينا بأييكم المفتون ، فالباء على أصلها من التعدية متعلقة ب ( يبصر ويبصرون ) .