وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين
عطف على جملة
فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ، عرف الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعض ما تنطوي عليه نفوس المشركين نحو النبيء - صلى الله عليه وسلم - من الحقد والغيظ وإضمار الشر عندما يسمعون القرآن .
والزلق : بفتحتين زلل الرجل من ملاسة الأرض من طين عليها أو دهن ، وتقدم في قوله تعالى
فتصبح صعيدا زلقا في سورة الكهف .
ولما كان الزلق يفضي إلى السقوط غالبا أطلق الزلق وما يشتق منه على السقوط والاندحاض على وجه الكناية ، ومنه قوله هنا
ليزلقونك ، أي يسقطونك ويصرعونك .
وعن
مجاهد : أن ينفذونك بنظرهم . وقال
القرطبي : يقال زلق السهم وزهق ، إذا نفذ ، ولم أراه لغيره ، قال
الراغب قال
يونس : لم يسمع الزلق والإزلاق إلا في القرآن اهـ .
[ ص: 108 ] قلت : وعلى جميع الوجوه فقد جعل الإزلاق بأبصارهم على وجه الاستعارة المكنية ، شبهت الأبصار بالسهام ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو فعل ( يزلقونك ) . وهذا مثل قوله تعالى
إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا .
وقرأ
نافع وأبو جعفر ( يزلقونك ) بفتح المثناة مضارع زلق بفتح اللام يزلق متعديا ، إذا نحاه عن مكانه . وقرأه الباقون بضم المثناة .
وجاء يكاد بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ذلك في المستقبل وجاء فعل ( سمعوا ) ماضيا لوقوعه مع ( لما ) وللإشارة إلى أنه قد حصل منهم ذلك وليس مجرد فرض .
واللام في
ليزلقونك لام الابتداء التي تدخل كثيرا في خبر ( إن ) المكسورة وهي أيضا تفرق بين ( إن ) المخففة وبين ( إن ) النافية .
وضمير
إنه لمجنون عائد إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - حكاية لكلامهم بينهم ، فمعاد الضمير كائن في كلام بعضهم ، أو ليس للضمير معاد في كلامهم لأنه منصرف إلى من يتحدثون عنه في غالب مجالسهم .
والمعنى : يقولون ذلك اعتلالا لأنفسهم إذ لم يجدوا في الذكر الذي يسمعونه مدخلا للطعن فيه فانصرفوا إلى الطعن في صاحبه - صلى الله عليه وسلم - بأنه مجنون لينتقلوا من ذلك إلى أن الكلام الجاري على لسانه لا يوثق به ؛ ليصرفوا دهماءهم عن سماعه ، فلذلك أبطل الله قولهم ( إنه لمجنون ) بقوله
وما هو إلا ذكر للعالمين ، أي ما القرآن إلا ذكر للناس كلهم وليس بكلام المجانين ، وينتقل من ذلك إلى أن الناطق به ليس من المجانين في شيء .
والذكر : التذكير بالله ، والجزاء هو أشرف أنواع الكلام لأن فيه صلاح الناس .
فضمير ( هو ) عائد إلى غير مذكور بل إلى معلوم من المقام ، وقرينة السياق ترجع كل ضمير من ضميري الغيبة إلى معاده ، كقول
عباس بن مرداس :
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
أي لأحرز الكفار ما جمعه المسلمون .
وفي قوله
ويقولون إنه لمجنون مع قوله في أول السورة
ما أنت بنعمة ربك بمجنون محسن رد العجز على الصدر .
[ ص: 109 ] وقوله
وما هو إلا ذكر للعالمين إبطالا لقولهم
إنه لمجنون لأنهم قالوه في سياق تكذيبهم بالقرآن ، فإذا ثبت أن القرآن ذكر بطل أن يكون مبلغه مجنونا . وهذا من قبيل الاحتباك ؛ إذ التقدير : ويقولون إنه لمجنون وإن القرآن كلام مجنون ، وما القرآن إلا ذكر وما أنت إلا مذكر .