فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية
الفاء تفصيل لما يتضمنه ( تعرضون ) إذ العرض عرض للحساب والجزاء فإيتاء الكتاب هو إيقاف كل واحد على صحيفة أعماله . و ( أما ) حرف تفصيل وشرط وهو يفيد مفاد ( مهما يكن من شيء ) ، والمعنى : مهما يكن عرض فمن أوتي كتابه بيمينه فهو في عيشة راضية ، وشأن الفاء الرابطة لجوابها أن يفصل بينها وبين ( أما ) بجزء من جملة الجواب أو بشيء من متعلقات الجواب مهتم به ؛ لأنهم لما التزموا حذف فعل الشرط لاندماجه في مدلول ( أما ) كرهوا اتصال فاء الجواب بأداة الشرط ففصلوا بينهما بفاصل تحسينا لصورة الكلام ، فقوله
[ ص: 130 ] من أوتي كتابه بيمينه أصله صدر جملة الجواب ، وهو مبتدأ خبره
فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه كما سيأتي .
ودل قوله
فأما من أوتي كتابه بيمينه على كلام محذوف للإيجاز تقديره : فيؤتى كل أحد كتاب أعماله ، فأما من أوتي كتابه . . . إلخ . على طريقة قوله تعالى
أن اضرب بعصاك البحر فانفلق .
والباء في قوله ( بيمينه ) للمصاحبة أو بمعنى ( في ) .
وإيتاء الكتاب باليمين علامة على أنه إيتاء كرامة وتبشير ، والعرب يذكرون التناول باليمين كناية عن الاهتمام بالمأخوذ والاعتزاز به ، قال
الشماخ :
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمـين
وقال تعالى
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود الآية . ثم قال
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم الآية .
وجملة
فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه جواب شرط ( أما ) وهو مغني عن خبر المبتدأ ، وهذا القول قول ذي بهجة وحبور يبعثان على إطلاع الناس على ما في كتاب أعماله من جزاء في مقام الاغتباط والفخار ، ففيه كناية عن كونه من حبور ونعيم فإن المعنى الكنائي هو الغرض الأهم من ذكر العرض .
و ( هاؤم ) مركب من ( هاء ) ممدودا ومقصورا ، والممدود مبني على فتح الهمزة إذا تجرد عن علامات الخطاب ما عدا الموجه إلى امرأة فهو بكسر الهمزة دون ياء . وإذا خوطب به أكثر من واحد التزم مده ليتأتى إلحاق علامة خطاب كالعلامة التي تلحق ضمير المخاطب وضموا همزته ضمة كضمة ضمير الخطاب إذ لحقته علامة التثنية والجمع ، فيقال : هاؤما ، كما يقال : أنتما ، وهاؤم كما يقال : أنتم وهاؤن كما يقال : أنتن ، ومن أهل اللغة من ادعى أن ( هاؤم ) أصله : ها أموا مركبا من كلمتين ( ها ) وفعل أمر للجماعة من فعل ( أم ) إذا قصد ، ثم خفف لكثرة الاستعمال ، ولا يصح لأنه لم يسمع هاؤمين في خطاب جماعة النساء ، وفيه لغات أخرى واستعمالات في اتصال كاف الخطاب به تقصاها الرضي في شرح الكافية
وابن مكرم في لسان العرب .
[ ص: 131 ] و ( هاؤم ) بتصاريفه معتبر اسم فعل أمر بمعنى : خذ ، كما في الكشاف وبمعنى تعال ، أيضا كما في النهاية .
والخطاب في قوله
هاؤم اقرءوا للصالحين من أهل المحشر .
و ( كتابيه ) أصله : كتابي بتحريك ياء المتكلم على أحد وجوه في ياء المتكلم إذا وقعت مضافا إليها وهو تحريك أحسب أنه يقصد به إظهار إضافة المضاف إلى تلك الياء للوقوف ، محافظة على حركة الياء المقصود اجتلابها .
و ( اقرءوا ) بيان للمقصود من اسم الفعل من قوله ( هاؤم ) .
وقد تنازع كل من ( هاؤم ) و ( اقرءوا ) قوله ( كتابيه ) . والتقدير : هاؤم كتابيه اقرءوا كتابيه والهاء في كتابيه ونظائرها للسكت حين الوقت .
وحق هذه الهاء أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل . وقد أثبتت في هذه الآية في الحالين عند جمهور القراء وكتبت في المصاحف ، فعلم أنها للتعبير عن الكلام المحكي بلغة ذلك القائل بما يرادفه في الاستعمال العربي ؛ لأن الاستعمال أن يأتي القائل بهذه الهاء بالوقف على كلتا الجملتين .
ولأن هذه الكلمات وقعت فواصل ، والفواصل مثل الأسجاع تعتبر بحالة الوقف مثل القوافي ، فلو قيل : اقرءوا كتابي إني ظننت أني ملاق حسابي ، سقطت فاصلتان وذلك تفريط في محسنين .
وقرأها
يعقوب إذا وصلها بحذف الهاء ، والقراء يستحبون أن يقف عليها القارئ ليوافق مشهور رسم المصحف ولئلا يذهب حسن السجع .
وأطلق الظن في قوله
إني ظننت أني ملاق حسابيه ، على معنى اليقين وهو أحد معنييه . وعن
الضحاك : كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ومن الكافر فهو شك .
وحقيقة الظن : علم لم يتحقق; إما لأن المعلوم به لم يقع بعد ولم يخرج إلى عالم الحس ، وإما لأن علم صاحبه مخلوط بشك . وبهذا يكون إطلاق الظن على المعلوم المتيقن إطلاقا حقيقيا . وعلى هذا جرى
الأزهري في التهذيب
وأبو عمرو واقتصر على هذا المعنى
ابن عطية .
[ ص: 132 ] وكلام الكشاف يدل على أن
أصل الظن : علم غير متيقن ولكنه قد يجري مجرى العلم ؛ لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام ، وقال : يقال : أظن ظنا كاليقين أن الأمر كيت وكيت ، فهو عنده إذا أطلق على اليقين كان مجازا . وهذا أيضا رأي
الجوهري وابن سيده والفيروزآبادي ، وأما قوله تعالى
إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين فلا دلالة فيه لأن تنكير ( ظنا ) أريد به التقليل ، وأكد ب
ما نحن بمستيقنين فاحتمل الاحتمالين ، وقد تقدم عند قوله تعالى
وإنا لنظنك من الكاذبين في سورة الأعراف وقوله
وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه في سورة براءة .
والمعنى : إني علمت في الدنيا أني ألقى الحساب ، أي آمنت بالبعث . وهذا الخبر مستعمل كناية عن استعداده للحساب بتقديم الإيمان والأعمال الصالحة مما كان سبب سعادته .
وجملة
إني ظننت أني ملاق حسابيه في موقع التعليل للفرح والبهجة التي دل عليها قوله
هاؤم اقرءوا كتابيه وبذلك يكون حرف ( إن ) لمجرد الاهتمام وإفادة التسبب .
وموقع
فهو في عيشة راضية موقع التفريع على ما تقدم من إيتائه كتابه بيمينه وما كان لذلك من أثر المسرة والكرامة في المحشر ، فتكون الفاء لتفريع ذكر هذه الجملة على ذكر ما قبلها . ولك أن تجعلها بدل اشتمال من جملة
فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه فإن ذلك القول اشتمل على أن قائله في نعيم كما تقدم ، وإعادة الفاء مع الجملة من إعادة العامل في المبدل منه مع البدل للتأكيد كقوله تعالى
تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا .
والعيشة : حالة العيش وهيئته .
ووصف ( عيشة ) ب ( راضية ) مجاز عقلي لملابسة العيشة حالة صاحبها وهو العائش ملابسة الصفة لموصوفها .
والراضي : هو صاحب العيشة لا العيشة ؛ لأن ( راضية ) اسم فاعل رضيت إذا حصل لها الرضى وهو الفرح والغبطة .
[ ص: 133 ] والعيشة ليست راضية ولكنها لحسنها رضي صاحبها ، فوصفها ب ( راضية ) من إسناد الوصف إلى غير ما هو له ، وهو من المبالغة لأنه يدل على شدة الرضى بسببها حتى سرى إليها ، ولذلك الاعتبار أرجع
السكاكي ما يسمى بالمجاز العقلي إلى الاستعارة المكنية كما ذكر في علم البيان .
و ( في ) للظرفية المجازية وهي الملابسة .
وجملة
في جنة عالية بدل اشتمال من جملة
فهو في عيشة راضية .
والعلو : الارتفاع وهو من محاسن الجنات ؛ لأن صاحبها يشرف على جهات من متسع النظر ؛ ولأنه يبدو له كثير من محاسن جنته حين ينظر إليها من أعلاها أو وسطها مما لا يلوح لنظره لو كانت جنته في أرض منبسطة ، وذلك من زيادة البهجة والمسرة ؛ لأن جمال المناظر من مسرات النفس ومن النعم . ووقع في شعر
زهير :
كأن عيني في غربي مقتـلة من النواضح تسقي جنة سحقا
فقد قال أهل اللغة : يجوز أن يكون سحقا ، نعتا للجنة بدون تقدير كما قالوا : ناقة علط وامرأة عطل . ولم يعرجوا على معنى السحق فيها وهو الارتفاع ؛ لأن المرتفع بعيد ، وقالوا : سحقت النخلة ككرم إذا طالت . وفي القرآن
كمثل جنة بربوة .
وجوزوا أن يراد أيضا بالعلو علو القدر مثل فلان ذو درجة رفيعة ، وبذلك كان للفظ ( عالية ) هنا ما ليس لقوله
كمثل جنة بربوة لأن المراد هنالك جنة من الدنيا .
والقطوف : جمع قطف بكسر القاف وسكون الطاء ، وهو الثمر ، سمي بذلك ؛ لأنه يقطف ، وأصله فعل بمعنى مفعول مثل ذبح .
ومعنى دنوها : قربها من أيدي المتناولين ؛ لأن ذلك أهنأ إذ لا كلفة فيه ، قال تعالى
وذللت قطوفها تذليلا .
وجملة (
كلوا واشربوا ) إلى آخرها مقول قول محذوف وهو ومقوله في موضع
[ ص: 134 ] صفة ل ( جنة ) ؛ إذ التقدير : يقال للفريق الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم حين يستقرون في الجنة : كلوا واشربوا إلخ .
ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا عن الضمير في قوله
فهو في عيشة راضية .
وإنما أفردت ضمائر الفريق الذي أوتي كتابه بيمينه فيما تقدم ثم جاء الضمير ضمير جمع عند حكاية خطابهم ؛ لأن هذه الضمائر السابقة حكيت معها أفعال مما يتلبس بكل فرد من الفريق عند إتمام حسابه . وأما ضمير كلوا واشربوا فهو خطاب لجميع الفريق بعد حلولهم في الجنة ، كما يدخل الضيوف إلى المأدبة فيحيي كل داخل منهم بكلام يخصه فإذا استقروا أقبل عليهم مضيفهم بعبارات الإكرام .
و ( هنيئا ) يجوز أن يكون فعيلا بمعنى فاعل إذا ثبت له الهناء فيكون منصوبا على النيابة عن المفعول المطلق ؛ لأنه وصفه ، وإسناد الهناء للأكل والشرب مجاز عقلي ؛ لأنهما متلبسان بالهناء للآكل والشارب .
ويجوز أن يكون اسم فاعل من غير الثلاثي بوزن ما للثلاثي . والتقدير : مهنئا ، أي سبب هناء ، كما قال
عمرو بن معد يكرب :
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع ، وكما وصف الله تعالى بالحكيم بمعنى الحكم المصنوعات . ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول ، أي مهنيئا به .
وعلى الاحتمالات كلها فإفراد ( هنيئا ) في حال أنه وصف لشيئين بناء على أن فعيلا بمعنى فاعل لا يطابق موصوفه أو على أنه إذا كان صفة لمصدر فهو نائب عن موصوفه ، والوصف بالمصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث .
و
بما أسلفتم في موضع الحال من ضمير
كلوا واشربوا .
والباء للسببية .
وماصدق ( ما ) الموصولة هو العمل ، أي الصالح .
والإسلاف : جعل الشيء سلفا ، أي سابقا .
[ ص: 135 ] والمراد أنه مقدم سابق لإبانه لينتفع به عند الحاجة إليه ، ومنه اشتق السلف للقرض ، والإسلاف للإقراض ، والسلفة للسلم .
والأيام الخالية : الماضية البعيدة مشتق من الخلو وهو الشغور والبعد .