ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا بدل خطابه مع قومه من طريقة النصح والأمر إلى طريقة التوبيخ بقوله
ما لكم لا ترجون لله وقارا .
وهو استفهام صورته صورة السؤال عن أمر ثبت لهم في حال انتفاء رجائهم توقير الله .
والمقصود أنه لا شيء يثبت لهم صارف عن توقير الله فلا عذر لكم في عدم توقيره .
وجملة
لا ترجون في موضع الحال من ضمير المخاطبين ، وكلمة ( ما لك ) ونحوها تلازمها حال بعدها نحو
فما لهم عن التذكرة معرضين .
وقد اختلف في معنى قوله
ما لكم لا ترجون لله وقارا وفي تعلق معمولاته بعوامله على أقوال : بعضها يرجع إلى إبقاء معنى الرجاء على معناه المعروف وهو ترقب الأمر ، وكذلك معنى الوقار على المتعارف وهو العظمة المقتضية للإجلال ، وبعضها يرجع إلى تأويل معنى الرجاء ، وبعضها إلى تأويل معنى الوقار ، ويتركب من الحمل على الظاهر ومن التأويل أن يكون التأويل في كليهما ، أو أن يكون التأويل في أحدهما مع إبقاء الآخر على ظاهر معناه .
فعلى حمل الرجاء على المعنى المتعارف الظاهر وحمل الوقار كذلك . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير وأبو العالية nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء بن أبي رباح وابن كيسان : ما لكم لا ترجون ثوابا من الله ولا تخافون عقابا ، أي : فتعبدوه راجين أن يثيبكم على عبادتكم وتوقيركم إياه . وهذا التفسير ينحو إلى أن يكون في الكلام اكتفاء ، أي : ولا تخافون
[ ص: 200 ] عقابا . وإن نكتة الاكتفاء بالتعجب من عدم رجاء الثواب : أن ذلك هو الذي ينبغي أن يقصده أهل الرشاد والتقوى . وإلى هذا المعنى قال صاحب الكشاف : إذ صدر بقوله : ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب .
وهذا يقتضي أن يكون الكلام كناية تلويحية عن حثهم على الإيمان بالله الذي يستلزم رجاء ثوابه وخوف عقابه ؛ لأن من رجا تعظيم الله إياه آمن به وعبده وعمل الصالحات .
وعلى تأويل معنى الرجاء قال
مجاهد والضحاك : معنى
لا ترجون لا تبالون لله عظمة . قال
قطرب : هذه لغة حجازية
لمضر وهذيل وخزاعة يقولون : لم أرج أي : لم أبال ، وقال
الوالبي والعوفي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : معنى
لا ترجون لا تعلمون ، وقال
مجاهد أيضا : لا ترون ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه سأله عنها
نافع بن الأزرق ، فأجابه أن الرجاء بمعنى الخوف ، وأنشد قول
أبي ذؤيب :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عواسل
أي : لم يخف لسعها واستمر على اشتيار العسل . قال
الفراء : إنما يوضع الرجاء موضع الخوف ؛ لأن مع الرجاء طرفا من الخوف من الناس ومن ثم استعمل الخوف بمعنى العلم كقوله تعالى
فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله الآية . والمعنى : لا تخافون عظمة الله وقدرته بالعقوبة .
وعلى تأويل الوقار قال
قتادة : الوقار : العاقبة ، أي : ما لكم لا ترجون لله عاقبة ، أي : عاقبة الإيمان ، أي : أن الكلام كناية عن التوبيخ على تركهم الإيمان بالله ، وجعل
أبو مسلم الأصفهاني الوقار بمعنى الثبات ، قال : ومنه قوله تعالى
وقرن في بيوتكن أي : اثبتن ، ومعناه : ما لكم لا تثبتون وحدانية الله .
وتتركب من هذين التأويلين معان أخرى من كون الوقار مسندا في التقرير إلى فاعله أو إلى مفعوله ، وهي لا تخفى .
وأما قوله ( لله ) فالأظهر أنه متعلق بـ ( ترجون ) ، ويجوز في بعض التأويلات الماضية أن يكون متعلقا بـ ( وقارا ) : إما تعلق فاعل المصدر بمصدره فتكون اللام
[ ص: 201 ] في قوله ( لله ) لشبه الملك ، أي : الوقار الذي هو تصرف الله في خلقه إن شاء أن يوقركم ، أي : يكرمكم بالنعيم ، وإما تعلق مفعول المصدر ، أي : أن توقروا الله وتخشوه ولا تتهاونوا بشأنه تهاون من لا يخافه فتكون اللام لام التقوية .
وجملة
وقد خلقكم أطوارا حال من ضمير ( لكم ) أو ضمير ترجون ، أي : في حال تحققكم أنه خلقكم أطوارا .
فأما أنه خلقهم فموجب للاعتراف بعظمته ؛ لأنه مكونهم وصانعهم فحق عليهم الاعتراف بجلاله .
وأما كون خلقهم أطوارا فلأن الأطوار التي يعلمونها دالة على رفقه بهم في ذلك التطور ، فذلك تعريض بكفرهم النعمة ، ولأن الأطوار دالة على حكمة الخالق وعلمه وقدرته ، فإن
تطور الخلق من طور النطفة إلى طور الجنين إلى طور خروجه طفلا إلى طور الصبا إلى طور بلوغ الأشد إلى طور الشيخوخة وطرو الموت على الحياة وطور البلى على الأجساد بعد الموت ، كل ذلك والذات واحدة ، فهو دليل على تمكن الخالق من كيفيات الخلق والتبديل في الأطوار ، وهم يدركون ذلك بأدنى التفات الذهن ، فكانوا محقوقين بأن يتوصلوا به إلى معرفة عظمة الله وتوقع عقابه ؛ لأن الدلالة على ذلك قائمة بأنفسهم ، وهل التصرف فيهم بالعقاب والإثابة إلا دون التصرف فيهم بالكون والفساد .
والأطوار : جمع طور ، بفتح فسكون ، والطور : التارة ، وهي المرة من الأفعال أو من الزمان ، فأريد من الأطوار هنا ما يحصل في المرات والأزمان من أحوال مختلفة ، ؛ لأنه لا يقصد من تعدد المرات والأزمان إلا تعدد ما يحصل فيها ، فهو تعدد بالنوع لا بالتكرار كقول
النابغة :
فإن أفاق لقد طالت عمايته والمرء يخلق طورا بعد أطوار
وانتصب أطوارا على الحال من ضمير المخاطبين ، أي : تطور خلقهم ؛ لأن أطوارا صار في تأويل أحوالا في أطوار .