واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا [ ص: 268 ] عطف على قوله
فاتخذه وكيلا ، والمناسبة أن
الصبر على الأذى يستعان عليه بالتوكل على الله .
وضمير يقولون عائد إلى المشركين ، ولم يتقدم له معاد فهو من الضمائر التي استغني عن ذكر معادها بأنه معلوم للسامعين كما تقدم غير مرة ، ومن ذلك عند قوله تعالى
وأن لو استقاموا على الطريقة الآيات ، من سورة
قل أوحي إلي ، ولأنه سيأتي عقبه قوله
وذرني والمكذبين فيبين المراد من الضمير .
وقد مضى في السور التي نزلت قبل سورة المزمل مقالات أذى من المشركين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي سورة العلق
أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى . قيل هو
أبو جهل تهدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئن صلى في المسجد الحرام ليفعلن ويفعلن . وفيها
إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى . قيل هو
الأخنس بن شريق تنكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان حليفه ، وفي سورة القلم
ما أنت بنعمة ربك بمجنون إلى قوله
فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون ، وقوله
ولا تطع كل حلاف مهين إلى قوله
قال أساطير الأولين ردا لمقالاتهم . وفي سورة المدثر إن كانت نزلت قبل سورة المزمل
ذرني ومن خلقت وحيدا إلى قوله
إن هذا إلا قول البشر ، قيل : قائل ذلك
الوليد بن المغيرة فلذلك أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ما يقولون .
والهجر الجميل : هو الحسن في نوعه ، فإن الأحوال والمعاني منها حسن ومنها قبيح في نوعه ، وقد يقال : كريم ، وذميم ، وخالص ، وكدر ، ويعرض الوصف للنوع بما من شأنه أن يقترن به من عوارض تناسب حقيقة النوع فإذا جردت الحقيقة عن الأعراض التي قد تعتلق بها كان نوعها خالصا ، وإذا ألصق بالحقيقة ما ليس من خصائصها كان النوع مكدرا قبيحا ، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى
لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى . وتقدم عند قوله تعالى
إني ألقي إلي كتاب كريم في سورة النمل ، ومن هذا المعنى قوله (
فصبر جميل ) في سورة يوسف ، وقوله
فاصبر صبرا جميلا في سورة المعارج .
فالهجر الجميل هو الذي يقتصر صاحبه على حقيقة الهجر ، وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى ، ولما كان الهجر ينشأ عن بغض المهجور ، أو كراهية
[ ص: 269 ] أعماله كان معرضا لأن يتعلق به أذى من سب أو ضرب أو نحو ذلك . فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجرا جميلا ، أي : أن يهجرهم ولا يزيد على هجرهم سبا أو انتقاما .
وهذا الهجر : هو إمساك النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن مكافأتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله تعالى
واصبر على ما يقولون .
وليس منسحبا على الدعوة للدين فإنها مستمرة ولكنها تبليغ عن الله تعالى فلا ينسب إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - .
وقد انتزع
فخر الدين من هذه الآية منزعا خلقيا بأن الله جمع ما يحتاج إليه الإنسان في مخالطة الناس في هاتين الكلمتين ؛ لأن المرء إما أن يكون مخالطا فلا بد له من الصبر على أذاهم وإيحاشهم ؛ لأنه إن أطمع نفسه بالراحة معهم لم يجدها مستمرة فيقع في الغموم إن لم يرض نفسه بالصبر على أذاهم ، وإن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل .