كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء اسم الإشارة عائد إلى ما تضمنه الكلام المتقدم من قوله
ليستيقن الذين أوتوا الكتاب إلى قوله مثلا بتأويل ما تضمنه الكلام بالمذكور ، أي : مثل ذلك الضلال الحاصل للذين في قلوبهم مرض وللكافرين ، والحاصل للذين أوتوا الكتاب بعد أن استيقنوا فلم يؤمنوا ، يضل الله من يشاء أن يضله من عباده ، ومثل ذلك الهدى الذي اهتداه المؤمنون فزادهم إيمانا مع إيمانهم يهدي الله من يشاء .
والغرض من هذا التشبيه تقريب المعنى المعقول وهو
تصرف الله تعالى بخلق أسباب الأحوال العارضة للبشر ، إلى المعنى المحسوس المعروف في واقعة الحال ، تعليما للمسلمين وتنبيها للنظر في تحصيل ما ينفع نفوسهم .
ووجه الشبه هو السببية في اهتداء من يهتدي وضلال من يضل ، في أن كلا من المشبه والمشبه به جعله الله سببا وإرادة لحكمة اقتضاها علمه تعالى فتفاوت الناس في مدى إفهامهم فيه بين مهتد ومرتاب مختلف المرتبة في ريبه ، ومكابر كافر وسيئ فهم كافر .
وهذه الكلمة عظيمة في اختلاف تلقي العقول للحقائق وانتفاعهم بها أو ضده بحسب اختلاف قرائحهم وفهومهم وتراكيب جبلاتهم المتسلسلة من صواب إلى مثله ، أو من تردد واضطراب إلى مثله ، أو من حنق وعناد إلى مثله ، فانطوى التشبيه من قوله كذلك على أحوال وصور كثيرة تظهر في الخارج .
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى باعتبار أنه موجد الأسباب الأصلية في الجبلات ، واقتباس الأهواء وارتباط أحوال العالم بعضها ببعض ، ودعوة الأنبياء والصلحاء إلى الخير ، ومقاومة أيمة الضلال لتلك الدعوات تلك الأسباب التي أدت بالضالين إلى ضلالهم وبالمهتدين إلى هداهم . وكل من خلق الله . فما على الأنفس المريدة الخير والنجاة إلا التعرض لأحد المهيعين بعد التجرد والتدبر
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت .
[ ص: 319 ] ومشيئة الله في ذلك تعلق علمه بسلوك المهتدين والضالين .
ومحل ( كذلك ) نصب بالنيابة عن المفعول المطلق ؛ لأن الجار والمجرور هنا صفة لمصدر محذوف دلت عليه الصفة ، والتقدير : يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إضلالا وهديا ، كذلك الإضلال والهدي . وليس هذا من قبيل قوله تعالى
وكذلك جعلناكم أمة وسطا .
وقدم وصف المفعول المطلق للاهتمام بهذا التشبيه لما يرشد إليه من تفصيل عند التدبر فيه ، وحصل من تقديمه محسن الجمع ثم التقسيم إذ جاء تقسيمه بقوله
يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء .