(
بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره
إضراب انتقالي ، وهو للترقي من مضمون (
ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) إلى الإخبار بأن الكافر يعلم ما فعله لأنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، إذ هو قرأ كتاب أعماله فقال (
يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه ) ، وقالوا (
ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ) . وقال تعالى (
اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) .
ونظم قوله (
بل الإنسان على نفسه بصيرة ) صالح لإفادة معنيين :
أولهما : أن يكون ( بصيرة ) بمعنى مبصر شديد المراقبة فيكون ( بصيرة ) خبرا عن ( الإنسان ) . و (
على نفسه ) متعلقا بـ ( بصيرة ) ، أي الإنسان بصير بنفسه . وعدي بحرف ( على ) لتضمينه معنى المراقبة وهو معنى قوله في الآية الأخرى (
كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) . وهاء ( بصيرة ) تكون للمبالغة مثل هاء علامة ونسابة ، أي الإنسان عليم بصير قوي العلم بنفسه يومئذ .
والمعنى الثاني : أن يكون ( بصيرة ) مبتدأ ثانيا ، والمراد به قرين الإنسان من الحفظة وعلى نفسه خبر المبتدأ الثاني مقدما عليه ، ومجموع الجملة خبرا عن ( الإنسان ) ، و ( بصيرة ) حينئذ يحتمل أن يكون معنى بصير ، أي مبصر
[ ص: 348 ] والهاء للمبالغة كما تقدم في المعنى الأول ، وتكون تعدية ( بصيرة ) بـ ( على ) لتضمينه معنى الرقيب كما في المعنى الأول .
ويحتمل أن تكون ( بصيرة ) صفة لموصوف محذوف ، تقديره : حجة بصيرة ، وتكون ( بصيرة ) مجازا في كونها بينة كقوله تعالى (
قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ) . ومنه قوله تعالى (
وآتينا ثمود الناقة مبصرة ) والتأنيث لتأنيث الموصوف .
وقد جرت هذه الجملة مجرى المثل لإيجازها ووفرة معانيها .
وجملة (
ولو ألقى معاذيره ) في موضع الحال من المبتدأ وهو الإنسان ، وهي حالة أجدر بثبوت معنى عاملها عند حصولها .
و ( لو ) هذه وصلية كما تقدم عند قوله تعالى (
فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به ) في آل عمران . والمعنى : هو بصيرة على نفسه حتى في حال إلقائه معاذيره .
والإلقاء : مراد به الإخبار الصريح على وجه الاستعارة ، وقد تقدم عند قوله تعالى (
فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ) في سورة النحل .
والمعاذير : اسم جمع معذرة ، وليس جمعا لأن معذرة حقه أن يجمع على معاذر ، ومثل المعاذير قولهم : المناكير ، اسم جمع منكر . وعن الضحاك أن معاذير هنا جمع معذار بكسر الميم وهو الستر بلغة اليمن يكون الإلقاء مستعملا في المعنى الحقيقي ، أي الإرخاء . وتكون الاستعارة في المعاذير بتشبيه جحد الذنوب كذبا بإلقاء الستر على الأمر المراد حجبه .
والمعنى : أن الكافر يعلم يومئذ أعماله التي استحق العقاب عليها ويحاول أن يتعذر وهو يعلم أن لا عذر له ولو أفصح عن جميع معاذيره .
و ( معاذيره ) : جمع معرف بالإضافة يدل على العموم . فمن هذه المعاذير قولهم (
رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ) ومنها قولهم (
ما جاءنا من بشير ) وقولهم (
هؤلاء أضلونا ) ونحو ذلك من المعاذير الكاذبة .