يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا
اعتراض بين جملة (
يشربون من كأس ) إلخ وبين جملة (
ويطاف عليهم بآنية من فضة ) إلخ . وهذا الاعتراض استئناف بياني هو جواب عن سؤال من شأن الكلام السابق أن يثيره في نفس السامع المغتبط بأن ينال مثل ما نالوا من النعيم والكرامة في الآخرة . فيهتم بأن يفعل مثلما فعلوا ، فذكر بعض أعمالهم الصالحة التي هي من آثار الإيمان مع التعريض لهم بالاستزادة منها في الدنيا .
والكلام إخبار عنهم صادر في وقت نزول هذه الآيات ، بعضه وصف لحالهم في الآخرة وبعضه وصف لبعض حالهم في الدنيا الموجب لنوال ما نالوه في الآخرة ، فلا حاجة إلى قول
الفراء : إن في الكلام إضمارا . وتقديره : كانوا يوفون بالنذر .
وليست الجملة حالا من الأبرار وضميرهم لأن الحال قيد لعاملها فلو جعلت حالا لكانت قيدا لـ ( يشربون ) ، وليس وفاؤهم بالنذر بحاصل في وقت شربهم من
خمر الجنة بل هو بما أسلفوه في الحياة الدنيا .
والوفاء : أداء ما وجب على المؤدي وافيا دون نقص ولا تقصير فيه .
والنذر : ما يعتزمه المرء ويعقد عليه نيته ، قال
عنترة :
والناذرين إذا لم ألقهما دمي
والمراد به هنا ما عقدوا عليه عزمهم من الإيمان والامتثال وهو ما استحقوا به صفة ( الأبرار ) .
ويجوز أن يراد بـ ( النذر ) ما ينذرونه من فعل الخير المتقرب به إلى الله ، أي ينشئون النذور بها ليوجبوها على أنفسهم .
وجيء بصيغة المضارع للدلالة على تجدد وفائهم بما عقدوا عليه ضمائرهم من
[ ص: 383 ] الإيمان والعمل الصالح ، وذلك مشعر بأنهم يكثرون نذر الطاعات وفعل القربات ولولا ذلك لما كان الوفاء بالنذر موجبا الثناء عليهم .
والتعريف في النذر تعريف الجنس فهو يعم كل نذر .
وعطف على (
يوفون بالنذر ) قوله (
ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) لأنهم لما وصفوا بالعمل بما ينذرونه أتبع ذلك بذكر حسن نيتهم وتحقق إخلاصهم في أعمالهم لأن الأعمال بالنيات فجمع لهم بهذا صحة الاعتقاد وحسن الأعمال .
وخوفهم اليوم مجاز عقلي جرى في تعلق اليوم بالخوف لأنهم إنما يخافون ما يجري في ذلك اليوم من الحساب والجزاء على الأعمال السيئة بالعقاب فعلق فعل الخوف بزمان الأشياء المخوفة .
وانتصب ( يوما ) على المفعول به لـ ( يخافون ) ولا يصح نصبه على الظرفية لأن المراد بالخوف خوفهم في الدنيا من ذنوب تجر إليهم العقاب في ذلك اليوم . وليس المراد أنهم يخافون في ذلك اليوم فإنهم في ذلك اليوم آمنون .
ووصف اليوم بأن له شرا مستطيرا وصفا مشعرا بعلة خوفهم إياه . فالمعنى : أنهم يخافون شر ذلك اليوم فيتجنبون ما يفضي بهم إلى شره من الأعمال المتوعد عليها بالعقاب .
والشر : العذاب والجزاء السوء .
والمستطير : هو اسم فاعل من استطار القاصر ، والسين والتاء في استطار للمبالغة وأصله طار مثل استكبر . والطيران مجازي مستعار لانتشار الشيء وامتداده تشبيها له بانتشار الطير في الجو ، ومنه قولهم : الفجر المستطير وهو الفجر الصادق الذي ينتشر ضوءه في الأفق ويقال : استطار الحريق إذا انتشر وتلاحق .
وذكر فعل كان للدلالة على تمكن الخبر من المخبر عنه وإلا فإن شر ذلك اليوم ليس واقعا في الماضي وإنما يقع بعد مستقبل بعيد ، ويجوز أن يجعل ذلك من التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه .
وصيغة يخافون دالة على تجدد خوفهم شر ذلك اليوم على نحو قوله (
يوفون بالنذر ) .