فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل
الفاء للتفريع على قوله
إنما توعدون لواقع ( لأنه لما أفاد وقوع البعث وكان المخاطبون ينكرونه ويتعللون بعدم التعجيل بوقوعه ، بين لهم ما يحصل قبله وزيادة في تهويله عليهم . والإنذار بأنه مؤخر إلى أن تحصل تلك الأحداث العظيمة ، وفيه
[ ص: 424 ] كناية رمزية على تحقيق وقوعه لأن الإخبار عن أمارات حلول ما يوعدون يستلزم التحذير من التهاون به ، ولذلك ختمت هذه الأخبار بقوله )
ويل يومئذ للمكذبين ( .
وكررت كلمة ( إذا ) في أوائل الجمل المعطوفة على هذه الجملة بعد حروف العطف مع إغناء حرف العطف عن إعادة ( إذا ) كما في قوله (
فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان ) الآية ، لإفادة الاهتمام بمضمون كل جملة من هذه الجمل ليكون مضمونها مستقلا في جعله علامة على وقوع ما يوعدون .
وطمس النجوم : زوال نورها ، وأن نور معظم ما يلوح للناس من النجوم سببه انعكاس أشعة الشمس عليها حين احتجاب ضوء الشمس على الجانب المظلم من الأرض ، فطمس النجوم يقتضي طمس نور الشمس ، أي زوال التهابها بأن تبرد حرارتها ، أو بأن تعلو سطحها طبقة رمادية بسبب انفجارات من داخلها ، أو بأن تتصادم مع أجرام سماوية أخرى لاختلال نظام الجاذبية فتندك وتتكسر قطعا فيزول التهابها .
ومعنى ( فرجت ) تفرق ما كان ملتحما من هيكلها ، يقال : فرج الباب إذا فتحه . والفرجة : الفتحة في الجدار ونحوه . فإذا أريد بالسماء الجنس الصادق بجميع السماوات على طريقة العموم الحقيقي ، أو الصادق بسماوات مشهورة على طريقة العموم العرفي وهي السماوات السبع التي يعبر أهل الهيئة عنها بالكواكب السيارة جاز أن يكون فرج السماوات حدوث أخاديد عظيمة في الكواكب زيادة على طمس نورها .
وإذا أريد بالسماء فرد معين معهود وهي ما نشاهده كالقبة الزرقاء في النهار وهي كرة الهواء ، فمعنى فرجت : فساد عناصر الجو بحيث تصير فيه طرائق مختلفة الألوان تبدو كأنها شقوق في كرة الهواء كما في قوله تعالى (
إذا السماء انشقت ) وكل ذلك مفض إلى انقراض العالم الدنيوي بجميع نظامه ومجموع أجسامه .
والنسف : قلع أجزاء الشيء بعضها عن بعض وتفريقها مثل الهدم .
ونسف الجبال : دكها ومصيرها ترابا مفرقا ، كما قال تعالى (
وكانت الجبال كثيبا مهيلا ) .
[ ص: 425 ] وبناء هذه الأفعال الثلاثة بصيغة المبني للمجهول لأن المقصود الاعتبار بحصول الفعل لا بتعيين فاعله على أنه من المعلوم أن فاعلها هو الله تعالى إذ لا يقدر عليه غيره .
وجملة (
وإذا الرسل أقتت ) عطف على الجمل المتقدمة فهي تقييد لوقت حادث يحصل وهي مما جعل مضمونها علامة على وقوع ما يوعدون به فيلزم أن يكون مضمونها مستقبل الحصول وفي نظم هذه الجملة غموض ودقة . فأما أقتت فأصله وقتت بالواو في أوله ، يقال : وقت وقتا ، إذا عين وقتا لعمل ما ، مشتقا من الوقت وهو الزمان ، فلما بني للمجهول ضمت الواو وهو ضم لازم احترازا من ضمة (
ولا تنسوا الفضل بينكم ) لأن ضمة الواو ضمة عارضة ، فجاز إبدالها همزة لأن الضم على الواو ثقيل فعدل عن الواو إلى الهمزة . وقرأه الجمهور أقتت بهمزة وتشديد القاف . وقرأه
أبو عمرو وحده بالواو وتشديد القاف ، وقرأه
أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف .
وشأن ( إذا ) أن تكون لمستقبل الزمان فهذا التأقيت للرسل توقيت سيكون في المستقبل ، وهو علامة على أن ما يوعدون يحصل مع العلامات الأخرى .
ولا خلاف في أن أقتت مشتق من الوقت كما علمت آنفا ، وأصل اشتقاق هذا الفعل المبني للمجهول أن يكون معناه : جعلت وقتا ، وهو أصل إسناد الفعل إلى مرفوعه ، وقد يكون بمعنى : وقت لها وقت على طريقة الحذف والإيصال .
وإذا كان ( إذا ) ظرفا للمستقبل وكان تأجيل الرسل قد حصل قبل نزول هذه الآية ، تعين تأويل أقتت على معنى : حان وقتها ، أي : الوقت المعين للرسل وهو الوقت الذي أخبرهم الله بأن ينذروا أممهم بأنه يحل في المستقبل غير المعين ، وذلك عليه قوله (
لأي يوم أجلت ليوم الفصل ) فإن التأجيل يفسر التوقيت .
وقد اختلفت أقوال المفسرين الأولين في محمل معنى هذه الآية فعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أقتت : جمعت أي ليوم القيامة قال تعالى (
يوم يجمع الله الرسل ) ، وعن
مجاهد والنخعي ) أقتت ) أجلت . قال
أبو علي الفارسي : أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا .
قال في الكشاف : والوجه أن يكون معنى ( وقتت ) بلغت ميقاتها الذي
[ ص: 426 ] كانت تنتظره وهو يوم القيامة اهـ . وهذا صريح في أنه يقال : وقت بمعنى أحضر في الوقت المعين ، وسلمه شراح الكشاف وهو معنى مغفول عنه في بعض كتب اللغة أو مطوي بخفاء في بعضها .
ويجيء على القول أن يكون قوله (
لأي يوم أجلت ) استئنافا ، وتجعل ( أي ) اسم استفهام مستعمل للتهويل كما درج عليه جمهور المفسرين الذين صرحوا ولم يجملوا . والذي يظهر لي أن تكون ( أي ) موصولة دالة على التعظيم والتهويل وهو ما يعبر عنه بالدال على معنى الكمال وتكون صفة لموصوف محذوف يدل عليه ما أضيفت إليه ( أي ) وتقديره : ليوم أي يوم ، أي ليوم عظيم . ويكون معنى أقتت حضر ميقاتها الذي وقت لها ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس جمعت ، وفي اللسان عن
الفراء : أقتت جمعت لوقتها ، وذلك قول الله تعالى (
يوم يجمع الله الرسل ) وقوله (
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) .
ويكون اللام في قوله (
لأي يوم أجلت ) لام التعليل ، أي جمعت لأجل اليوم الذي أجلت إليه ، وجملة أجلت صفة ليوم ، وحذف العائد لظهوره ، أي أجلت إليه .
وقوله (
ليوم الفصل ) بدل من (
لأي يوم أجلت ) بإعادة الحرف الذي جر به المبدل منه كقوله تعالى (
تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ) أي أحضرت الرسل ليوم عظيم هو يوم الفصل .
والظاهر أن المبدل منه والبدل دليلان على جواب ( إذا ) من قوله (
فإذا النجوم طمست ) إلخ ، إذ يعلم أن المعنى إذا حصل جميع ما ذكر فذلك وقوع ما توعدون .
وجملة (
لأي يوم أجلت ليوم الفصل ) قد علمت آنفا الوجه الوجيه في معناها . ومن المفسرين من جعلها مقول قول محذوف : يقال يوم القيامة ، ولا داعي إليه .
والفصل : تمييز الحق من الباطل بالقضاء والجزاء إذ بذلك يزول الالتباس والاشتباه والتمويه الذي كان لأهل الضلال في الدنيا فتتضح الحقائق على ما هي عليه في الواقع .
[ ص: 427 ] وجملة (
وما أدراك ما يوم الفصل ) في موضع الحال من يوم الفصل ، والواو واو الحال ، والرابط لجملة الحال إعادة اسم صاحب الحال عوضا عن ضميره ، مثل : (
القارعة ما القارعة ) . والأصل : وما أدراك ما هو ، وإنما أظهر في مقام الإضمار لتقوية استحضار يوم الفصل قصدا لتهويله .
و ( ما ) استفهامية مبتدأ وأدراك خبر ، أي أعلمك . و (
ما يوم الفصل ) استفهام علق به فعل أدراك عن العمل في مفعولين ، و ( ما ) الاستفهامية مبتدأ أيضا و ( يوم الفصل ) خبر عنها والاستفهامان مستعملان في معنى التهويل والتعجيب .