[ ص: 443 ] إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين
يجوز أن يكون هذا ختام الكلام الذي هو تقريع للمشركين حكي لهم فيه نعيم المؤمنين الذي لا يشاهده المشركون لبعدهم عن مكانه فيحكى لهم يومئذ فيما يقال لهم ليكون ذلك أشد حسرة عليهم وتنديما لهم على ما فرطوا فيه مما بادر إليه المتقون المؤمنون ففازوا ، فيكون هذا من جملة القول الذي حذف فعله عند قوله انطلقوا إلخ .
ويجوز أن يكون هذا ابتداء كلام مستأنف انتقل به إلى
ذكر نعيم المؤمنين المتقين تنويها بشأنهم وتعريضا لترغيب من المشركين الموجودين في الإقلاع عنه لينالوا كرامة المتقين .
وظلال : جمع ظل ، وهي ظلال كثيرة لكثرة شجر الجنة وكثرة المستظلين بظلها ، ولأن لكل واحد منهم ظلا يتمتع فيه هو ومن إليه ، وذلك أوقع في النعيم .
والتعريف في المتقين للاستغراق ، فلكل واحد من المتقين كون في ظلال .
و ( في ) للظرفية وهي ظرفية حقيقية بالنسبة للظلال لأن المستظل يكون مظروفا في الظل ، وظرفية مجازية بالنسبة للعيون والفواكه تشبيها لكثرة ما حولهم من العيون والفواكه بإحاطة الظروف ، وقوله (
مما يشتهون ) صفة فواكه . وجمع ( فواكه ) الفواكه وغيرها ، فالتبعيض الذي دل عليه حرف ( من ) تبعيض من أصناف الشهوات لا من أصناف الفواكه فأفاد أن تلك الفواكه مضمومة إلى ملاذ أخرى مما اشتهوه .
وجملة (
كلوا واشربوا ) مقول قول محذوف ، وذلك المحذوف في موقع الحال من المتقين ، والتقدير : مقولا لهم كلوا واشربوا .
والمقصود من ذلك القول كرامتهم بعرض تناول النعيم عليهم كما يفعله المضيف بضيوفه فالأمر في (
كلوا واشربوا ) مستعمل في العرض .
[ ص: 444 ] وهنيئا دعاء تكريم كما يقال للشارب أو الطعام في الدنيا : هنيئا مريئا ، كقوله تعالى (
فكلوه هنيئا مريئا ) في سورة النساء .
و " هنيئا " وصف لموصوف غير مذكور دل عليه فعل (
كلوا واشربوا ) وذلك الموصوف مفعول مطلق من (
كلوا واشربوا ) مبين للنوع لقصد الدعاء مثل : سقيا ، ورعيا في الدعاء بالخير ، وتبا وسحقا في ضده .
والباء في (
بما كنتم تعملون ) للسببية ، أي لإفادة تسبب ما بعدها في وقوع متعلقه ، أي كلوا واشربوا بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من
الأعمال الصالحة وذلك من إكرامهم بأن جعل ذلك الإنعام حقا لهم .
وجملة (
إنا كذلك نجزي المحسنين ) يجوز أن تكون مما يقال للمتقين بعد أن قيل لهم كلوا واشربوا إلخ مسوقة إليهم مساق زيادة الكرامة بالثناء عليهم ، أي هذا النعيم الذي أنعمت به عليكم هو سنتنا في جزاء المحسنين فإذ قد كنتم من المحسنين فذلك جزاء لكم نلتموه بأنكم من أصحاب الحق في مثله ، ففي هذا هز من أعطاف المنعم عليهم .
والمعنى عليه : أن هذه الجملة تقال لكل متق منهم ، أو لكل جماعة منهم مجتمعة على نعيم الجنة ، وليعلموا أيضا أن أمثالهم في الجنات الأخرى لهم من الجزاء مثل ما هم ينعمون به .
ويجوز أن تكون الجملة موجهة إلى المكذبين الموجودين بعد أن وصف لهم ما ينعم به المتقون إثر قوله (
إن المتقين في ظلال وعيون ) إلخ ، قصد منها التعريض بأن حرمانهم من مثل ذلك النعيم هم الذين قضوا به على أنفسهم إذ أبوا أن يكونوا من المحسنين تكملة لتنديمهم وتحسيرهم الذي بودئوا به من قوله (
إن المتقين في ظلال وعيون ) إلى آخره ، أي إنا كذلك نجزي المحسنين دون أمثالكم المسيئين .
وموقع الجملة على كلا الاعتبارين موقع التعليل لما قبلها على كلا التقديرين فيما قبلها ، ومن أجل الإشعار بهذا التعليل افتتحت بـ ( إن ) مع خلو المقام عن التردد في الخبر إذ الموقف يومئذ موقف الصدق والحقيقة ، فلذلك كانت ( إن ) متمحضة لإفادة الاهتمام بالخبر وحينئذ تصير مغنية غناء فاء التسبب وتفيد مفاد التعليل
[ ص: 445 ] والربط كما تقدمت الإشارة إليه عند قوله تعالى (
إن البقر تشابه علينا ) وتفصيله عند قوله (
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ) في سورة آل عمران .
والإشارة بقوله ( كذلك ) إلى النعيم المشاهد إن كانت الجملة التي فيها إشارة موجهة إلى المتقين ، أو الإشارة إلى النعيم الموصوف في قوله (
في ظلال وعيون ) إن كانت الجملة المشتملة على اسم الإشارة موجهة إلى المكذبين .
والجملة على كل تقدير تفيد معنى التذييل بما اشتملت عليه من شبه عموم كذلك ، ومن عموم المحسنين ، فاجتمع فيها التعليل والتذييل .