ألم نجعل الأرض مهادا
لما كان أعظم نبأ جاءهم به القرآن إبطال إلهية أصنامهم وإثبات إعادة خلق أجسامهم ، وهم الأصلان اللذان أثارا تكذيبهم بأنه من عند الله وتألبهم على
[ ص: 13 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترويجهم تكذيبه ، جاء هذا الاستئناف بيانا لإجمال قوله :
عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون .
وسيجيء بعده تكملته بقوله :
إن يوم الفصل كان ميقاتا .
وجمع الله لهم في هذه الآيات
للاستدلال على الوحدانية بالانفراد بالخلق ، وعلى
إمكان إعادة الأجساد للبعث بعد البلى بأنها لا تبلغ مبلغ إيجاد المخلوقات العظيمة .
ولكون الجملة في موقع الدليل لم تعطف على ما قبلها .
والكلام موجه إلى منكري البعث وهم الموجه إليهم الاستفهام ، فهو من قبيل الالتفات ; لأن توجيه الكلام في قوة ضمير الخطاب بدليل عطف
وخلقناكم أزواجا عليه .
والاستفهام في
ألم نجعل تقريري ، وهو تقرير على النفي كما هو غالب صيغ الاستفهام التقريري أن يكون بعده نفي ، والأكثر كونه بحرف ( لم ) ، وذلك النفي كالإعذار للمقرر إن كان يريد أن ينكر ، وإنما المقصود التقرير بوقوع جعل الأرض مهادا لا بنفيه بحرف النفي لمجرد تأكيد معنى التقرير .
فالمعنى : أجعلنا الأرض مهادا ، ولذلك سيعطف عليه
وخلقناكم أزواجا ، وتقدم عند قوله تعالى :
ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض في سورة البقرة . ولا يسعهم إلا الإقرار به ، قال تعالى :
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ، وحاصل الاستدلال بالخلق الأول لمخلوقات عظيمة أنه يدل على إمكان الخلق الثاني لمخلوقات هي دون المخلوقات الأولى ، قال تعالى :
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس - أي الثاني -
ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
وجعل الأرض : خلقها على تلك الحالة ; لأن كونها مهادا أمر حاصل فيها من ابتداء خلقها ومن أزمان حصول ذلك لها من قبل خلق الإنسان لا يعلمه إلا الله .
والمعنى : أنه خلقها في حال أنها كالمهاد ؛ فالكلام تشبيه بليغ .
[ ص: 14 ] والتعبير ب ( نجعل ) دون : نخلق ; لأن كونها مهادا حالة من أحوالها عند خلقها أو بعده بخلاف فعل الخلق ، فإنه يتعدى إلى الذات غالبا أو إلى الوصف المقوم للذات نحو
الذي خلق الموت والحياة .
والمهاد : بكسر الميم ، الفراش الممهد الموطأ ، وزنة الفعال فيه تدل على أن أصله مصدر سمي به للمبالغة . وفي القاموس : إن المهاد يراد في المهد الذي يجعل للصبي . وعلى كل فهو تشبيه للأرض به ؛ إذ جعل سطحها ميسرا للجلوس عليها والاضطجاع وبالأحرى المشي ، وذلك دليل على إبداع الخلق والتيسير على الناس ، فهو استدلال يتضمن امتنانا ، وفي ذلك الامتنان إشعار بحكمة الله تعالى ؛ إذ جعل الأرض ملائمة للمخلوقات التي عليها ، فإن الذي صنع هذا الصنع لا يعجزه أن يخلق الأجسام مرة ثانية بعد بلاها .
والغرض من الامتنان هنا تذكيرهم بفضل الله لعلهم أن يرعووا عن المكابرة ويقبلوا على النظر فيما يدعوهم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - تبليغا عن الله تعالى .
ومناسبة ابتداء الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأرض أن
البعث هو إخراج أهل الحشر من الأرض فكانت الأرض أسبق شيء إلى ذهن السامع عند الخوض في أمر البعث ، أي : بعث أهل القبور .
وجعل الأرض مهادا يتضمن الاستدلال بأصل
خلق الأرض على طريقة الإيجاز ، ولذلك لم يتعرض إليه بعد عند التعرض لخلق السماوات .