[ ص: 29 ] إن يوم الفصل كان ميقاتا يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا .
هذا بيان لما أجمله قوله :
عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون وهو المقصود من سياق الفاتحة التي افتتحت بها السورة وهيأت للانتقال مناسبة ذكر الإخراج من قوله :
لنخرج به حبا ونباتا إلخ ; لأن ذلك شبه بإخراج أجساد الناس للبعث كما قال تعالى :
فأنبتنا به جنات وحب الحصيد إلى قوله :
كذلك الخروج في سورة ق .
وهو استئناف بياني أعقب به قوله :
لنخرج به حبا ونباتا الآية فيما قصد به من الإيماء إلى دليل البعث .
وأكد الكلام بحرف التأكيد ; لأن فيه إبطالا
لإنكار المشركين وتكذيبهم بيوم الفصل .
ويوم الفصل : يوم البعث للجزاء .
والفصل : التمييز بين الأشياء المختلطة ، وشاع إطلاقه على التمييز بين المعاني المتشابهة والملتبسة ; فلذلك أطلق على الحكم ، وقد يضاف إليه فيقال : فصل القضاء ، أي : نوع من الفصل ; لأن القضاء يميز الحق من الظلم .
فالجزاء على الأعمال فصل بين الناس بعضهم من بعض .
وأوثر التعبير عنه بيوم الفصل لإثبات شيئين : أحدهما : أنه بين ثبوت ما جحدوه من البعث والجزاء ، وذلك فصل بين الصدق وكذبهم .
وثانيهما :
القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وما اعتدى به بعضهم على بعض .
وإقحام فعل ( كان ) لإفادة أن توقيته متأصل في علم الله لما اقتضته حكمته تعالى التي هو أعلم بها وأن استعجالهم به لا يقدمه على ميقاته .
[ ص: 30 ] وتقدم يوم الفصل غير مرة أخراها في سورة المرسلات .
ووصف القرآن بالفصل يأتي في قوله تعالى :
إنه لقول فصل في سورة الطارق .
والميقات : مفعال مشتق من الوقت ، والوقت : الزمان المحدد في عمل ما ، ولذلك لا يستعمل لفظ وقت إلا مقيدا بإضافة أو نحوها نحو : وقت الصلاة .
فالميقات جاء على زنة اسم الآلة وأريد به نفس الوقت المحدد به شيء ، مثل ميعاد وميلاد ، في الخروج عن كونه اسم آلة إلى جعله اسما لنفس ما اشتق منه . والسياق دل على متعلق ميقات ، أي : كان ميقاتا للبعث والجزاء .
فكونه ميقاتا كناية تلويحية عن تحقيق وقوعه ؛ إذ التوقيت لا يكون إلا بزمن محقق الوقوع ولو تأخر وأبطأ .
وهذا رد لسؤالهم تعجيله وعن سبب تأخيره ، سؤالا يريدون منه الاستهزاء بخبره .
والمعنى : أن ليس تأخر وقوعه دالا على انتفاء حصوله .
والمعنى : ليس تكذيبكم به مما يحملنا على تغيير إبانه المحدد له ، ولكن الله مستدرجكم مدة .
وفي هذا إنذار لهم بأنه لا يدرى لعله يحصل قريبا ، قال تعالى :
لا تأتيكم إلا بغتة ، وقال
قل عسى أن يكون قريبا .
و
يوم ينفخ في الصور بدل من ( يوم الفصل ) .
وأضيف ( يوم ) إلى جملة
ينفخ في الصور فانتصب ( يوم ) على الظرفية وفتحته فتحة إعراب ; لأنه أضيف إلى جملة أولها معرب وهو المضارع .
وفائدة هذا البدل حصول التفصيل لبعض أحوال الفصل وبعض أهوال يوم الفصل .
والصور : البوق . وهو قرن ثور فارغ الوسط مضيق بعض فراغه ويتخذ من
[ ص: 31 ] الخشب أو من النحاس ، ينفخ فيه النافخ فيخرج منه الصوت قويا لنداء الناس إلى الاجتماع ، وأكثر ما ينادى به الجيش والجموع المنتشرة لتجتمع إلى عمل يريده الآمر بالنفخ .
وبني ( ينفخ ) إلى النائب لعدم تعلق الغرض بمعرفة النافخ ، وإنما الغرض معرفة هذا الحادث العظيم وصورة حصوله .
والنفخ في الصور يجوز أن يكون تمثيلا لهيئة دعاء الناس وبعثهم إلى الحشر بهيئة جمع الجيش المتفرق لراحة ، أو تتبع عدو فلا يلبثون أن يتجمعوا عند مقر أميرهم .
ويجوز أن يكون نفخ يحصل به الإحياء لا تعلم صفته ، فإن أحوال الآخرة ليست على أحوال الدنيا ، فيكون النفخ هذا معبرا به عن أمر التكوين الخاص وهو تكوين الأجساد بعد بلاها وبث أرواحها في بقاياها . وقد ورد في الآثار أن
الملك الموكل بهذا النفخ هو إسرافيل ، وقد تقدم ذكر ذلك غير مرة .
وعطف ( تأتون ) بالفاء لإفادة تعقيب النفخ بمجيئهم إلى الحساب .
والإتيان : الحضور بالمكان الذي يمشي إليه الماشي فالإتيان هو الحصول .
وحذف ما يحصل بين النفخ في الصور وبين حضورهم لزيادة الإيذان بسرعة حصول الإتيان حتى كأنه يحصل عند النفخ في الصور فتحيون فتسيرون فتأتون .
و ( أفواجا ) حال من ضمير ( تأتون ) ، والأفواج : جمع فوج - بفتح الفاء وسكون الواو - ، والفوج : الجماعة المتصاحبة من أناس مقسمين باختلاف الأغراض ، فتكون الأمم أفواجا ، ويكون الصالحون وغيرهم أفواجا ، قال تعالى :
كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها الآية .
والمعنى : فتأتون مقسمين طوائف وجماعات ، وهذا التقسيم بحسب الأحوال كالمؤمنين والكافرين وكل أولئك أقسام ومراتب .