إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا
يجوز أن تكون جملة
إن جهنم كانت مرصادا في موضع خبر ثان ل ( إن ) من قوله :
إن يوم الفصل كان ميقاتا والتقدير : إن يوم الفصل إن جهنم كانت مرصادا فيه للطاغين ، والعائد محذوف دل عليه قوله : ( مرصادا ) أي : مرصادا فيه ، أي : في ذلك اليوم ; لأن معنى المرصاد مقترب من معنى الميقات ؛ إذ كلاهما محدد لجزاء الطاغين .
ودخول حرف ( إن ) في خبر ( إن ) يفيد تأكيدا على التأكيد الذي أفاده حرف التأكيد الداخل على قوله : يوم الفصل على حد قول جرير :
إن الخليفة إن الله سربله سربال ملك به تزجى الخواتيم
ومنه قوله تعالى :
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة كما تقدم في سورة الحج ، وتكون الجملة من تمام ما خوطبوا به بقوله :
يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا .
والتعبير ب ( الطاغين ) إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بوصف الطغيان ; لأن مقتضى الظاهر أن يقول ( لكم مآبا ) .
ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة
إن يوم الفصل كان ميقاتا وما لحق بها ; لأن ذلك مما يثير في نفوس السامعين تطلب ماذا سيكون بعد تلك الأهوال ، فأجيب بمضمون
إن جهنم كانت مرصادا الآية . وعليه ؛ فليس في قوله : ( للطاغين ) تخريج على خلاف مقتضى الظاهر .
وابتدئ بذكر جهنم لأن المقام مقام تهديد ؛ إذ ابتدئت السورة بذكر تكذيب المشركين بالبعث ، ولما سنذكره من ترتيب نظم هذه الجمل .
[ ص: 35 ] وجهنم : اسم لدار العذاب في الآخرة . قيل : وهو اسم معرب ، فلعله معرب عن العبرانية أو عن لغة أخرى سامية ، وقد تقدم عند قوله تعالى :
فحسبه جهنم ولبئس المهاد في سورة البقرة .
والمرصاد : مكان الرصد ، أي : الرقابة ، وهو بوزن مفعال الذي غلب في اسم آلة الفعل ، مثل مضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل ، ومنهاج للموضع الذي ينهج منه .
والمعنى : إن جهنم موضع يرصد منه الموكلون بها ، ويترقبون من يزجى إليها من أهل الطغيان كما يترقب أهل المرصاد من يأتيه من عدو .
ويجوز أن يكون مرصاد مصدرا على وزن المفعال ، أي : رصدا . والإخبار به عن جهنم للمبالغة حتى كأنها أصل الرصد ، أي : لا تفلت أحدا ممن حق عليهم دخولها .
ويجوز أن يكون مرصاد زنة مبالغة للراصد الشديد الرصد ، مثل صفة مغيار ومعطار ، وصفت به جهنم على طريقة الاستعارة ولم تلحقه ( ها ) التأنيث ; لأن جهنم شبهت بالواحد من الرصد - بتحريك الصاد - ، وهو الواحد من الحرس الذي يقف بالمرصد إذ لا يكون الحارس إلا رجلا .
ومتعلق ( مرصادا ) محذوف ، دل عليه قوله :
للطاغين مآبا .
والتقدير : مرصادا للطاغين ، وهذا أحسن ; لأن قرائن السورة قصار فيحسن الوقف عند ( مرصادا ) لتكون قرينة .
ولك أن تجعل ( للطاغين ) متعلقا ب ( مرصادا ) وتجعل متعلق ( مآبا ) مقدرا دل عليه ( للطاغين ) فيكون كالتضمين في الشعر ؛ إذ كانت بقية لما في القرينة الأولى في القرينة الموالية فتكون القرينة طويلة .
ولو شئت أن تجعل ( للطاغين ) متنازعا فيه بين ( مرصادا ) أو ( مآبا ) فلا مانع من ذلك معنى .
وأقحم ( كانت ) دون أن يقال : إن جهنم مرصاد للدلالة على أن جعلها
[ ص: 36 ] مرصادا أمر مقدر لها كما تقدم في قوله :
إن يوم الفصل كان ميقاتا وفيه إيماء إلى سعة علم الله تعالى حيث أعد في أزله عقابا للطاغين .
ومآبا : مكان الأوب وهو الرجوع ، أطلق على المقر والمسكن إطلاقا أصله كناية ، ثم شاع استعماله فصار اسما للموضع الذي يستقر به المرء .
ونصب ( مآبا ) على الحال من ( جهنم ) أو على أنه خبر ثان لفعل ( كانت ) أو على أنه بدل اشتمال من ( مرصادا ) لأن الرصد يشتمل على أشياء مقصودة ، منها أن يكونوا صائرين إلى جهنم .
و ( للطاغين ) متعلق ب ( مآبا ) قدم عليه لإدخال الروع على المشركين الذين بشركهم طغوا على الله ، وهذا أحسن كما علمت آنفا . ولك أن تجعله متعلقا ب ( مرصادا ) أو متنازعا فيه بين ( مرصادا ) أو متنازعا فيه بين ( مرصادا ) و ( مآبا ) كما علمت آنفا .
والطغيان : تجاوز الحد في عدم الاكتراث بحق الغير والكبر ، والتعريف فيه للعهد ، فالمراد به المشركون المخاطبون بقوله :
فتأتون أفواجا فهو إظهار في مقام الإضمار لقصد الإيماء إلى سبب جعل جهنم لهم ; لأن الشرك أقصى الطغيان ؛ إذ المشركون بالله أعرضوا عن عبادته ومتكبرون على رسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث أنفوا من قبول دعوته ، وهم المقصود من معظم ما في هذه السورة كما يصرح به قوله :
إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا . هذا وإن المسلمين المستخفين بحقوق الله ، أو المعتدين على الناس بغير حق ، واحتقارا لا لمجرد غلبة الشهوة ، لهم حظ من هذا الوعيد بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر .
واللابث : المقيم بالمكان . وانتصب ( لابثين ) على الحال من الطاغين .
وقرأه الجمهور (
لابثين ) على صيغة جمع لابث . وقرأه
حمزة ،
وروح عن
يعقوب ( لابثين ) على صيغة جمع ( لبث ) من أمثلة المبالغة ، مثل حذر على خلاف فيه ، أو من الصفة المشبهة فتقتضي أن اللبث شأنه كالذي يجثم في مكان لا ينفك عنه .
وأحقاب : جمع حقب - بضمتين - ، وهو زمن طويل نحو الثمانين سنة ، وتقدم في قوله :
أو أمضي حقبا في سورة الكهف .
[ ص: 37 ] وجمعه هنا مراد به الطول العظيم ; لأن أكثر استعمال الحقب والأحقاب أن يكون في حيث يراد توالي الأزمان ، ويبين هذا الآيات الأخرى الدالة على خلود المشركين ، فجاءت هذه الآية على المعروف الشائع في الكلام كناية به عن الدوام دون انتهاء .
وليس فيه دلالة على أن لهذا اللبث نهاية حتى يحتاج إلى دعوى نسخ ذلك بآيات الخلود وهو وهم ; لأن الأخبار لا تنسخ ، أو يحتاج إلى جعل الآية لعصاة المؤمنين ؛ فإن ذلك ليس من شأن القرآن المكي الأول ، إذ قد كان المؤمنون أيامئذ صالحين مخلصين مجدين في أعمالهم .