[ ص: 39 ] إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا موقع هذه الجملة موقع التعليل لجملة
إن جهنم كانت مرصادا إلى قوله :
جزاء وفاقا ولذلك فصلت .
وضمير ( إنهم ) عائد إلى الطاغين .
وحرف ( إن ) للاهتمام بالخبر وليست لرد الإنكار ؛ إذ لا ينكر أحد أنهم لا يرجون حسابا وأنهم مكذبون بالقرآن ، وشأن ( إن ) إذا قصد بها مجرد الاهتمام أن تكون قائمة مقام فاء التفريع مفيدة للتعليل ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى :
إنك أنت العليم الحكيم وقوله :
إن البقر تشابه علينا في سورة البقرة ، فالجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة
فذوقوا .
وقد علمت مناسبة جزاءهم لجرمهم عند قوله آنفا
جزاء وفاقا مما يزيد وجه التعليل وضوحا .
وقوله :
لا يرجون حسابا نفي لرجائهم وقوع الجزاء .
والرجاء اشتهر في ترقب الأمر المحبوب ، والحساب ليس خيرا لهم حتى يجعل نفي ترقبه من قبيل نفي الرجاء ، فكان الظاهر أن يعبر عن ترقبه بمادة التوقع الذي هو ترقب الأمر المكروه ، فيظهر أن وجه العدول عن التعبير بمادة التوقع إلى التعبير بمادة الرجاء أن الله لما أخبر عن جزاء الطاغين وعذابهم تلقى المسلمون ذلك بالمسرة ، وعلموا أنهم ناجون مما سيلقاه الطاغون ، فكانوا مترقبين يوم الحساب ترقب رجاء ، فنفي رجاء يوم الحساب عن المشركين جامع بصريحه معنى عدم إيمانهم بوقوعه ، وبكنايته رجاء المؤمنين وقوعه بطريقة الكناية التعريضية تعريضا بالمسلمين ، وهي أيضا تلويحية لما في لازم مدلول الكلام من الخفاء .
ومن المفسرين من فسر ( يرجون ) بمعنى : يخافون ، وهو تفسير بحاصل المعنى ، وليس تفسيرا للفظ .
وفعل ( كانوا ) دال على أن انتفاء رجائهم الحساب وصف متمكن من
[ ص: 40 ] نفوسهم وهم كائنون عليه ، وليس المراد بفعل ( كانوا ) أنهم كانوا كذلك فانقضى ; لأن هذه الجملة إخبار عنهم في حين نزول الآية وهم في الدنيا ، وليست مما يقال لهم أو عنهم يوم القيامة .
وجيء بفعل ( يرجون ) مضارعا للدلالة على استمرار انتفاء ما عبر عنه بالرجاء ، وذلك لأنهم كلما أعيد لهم ذكر يوم الحساب جددوا إنكاره وكرروا شبهاتهم على نفي إمكانه لأنهم قالوا
إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين .
والحساب : العد ، أي : عد الأعمال والتوقيف على جزائها ، أي : لا يرجون وقوع حساب على أعمال العباد يوم الحشر .
و ( كذبوا ) عطف على لا يرجون ، أي : وإنهم كذبوا بآياتنا ، أي : بآيات القرآن .
والمعنى : كذبوا ما اشتملت عليه الآيات من إثبات الوحدانية ورسالة
محمد صلى الله عليه وسلم .
ولكون تكذيبهم بذلك قد استقر في نفوسهم ولم يترددوا فيه جيء في جانبه بالفعل الماضي لأنهم قالوا
قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب .
وكذاب : - بكسر الكاف وتشديد الذال - مصدر كذب . والفعال - بكسر أوله وتشديد عينه - مصدر فعل مثل التفعيل ، ونظائره : القصار مصدر قصر ، والقضاء مصدر قضى ، والخراق مصدر خرق - المضاعف - ، والفسار مصدر فسر . وعن
الفراء أن أصل هذا المصدر من اللغة اليمنية ، يريد : وتكلم به العرب ، فقد أنشدوا لبعض
بني كلاب :
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حوج قضاؤها من شفائيا
وأوثر هذا المصدر هنا دون التكذيب لمراعاة التماثل في فواصل هذه السورة ، فإنها على نحو ألف التأسيس في القوافي ، والفواصل كالأسجاع ويحسن في الأسجاع ما يحسن في القوافي .
[ ص: 41 ] وفي الكشاف : وفعال فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب ، لا يقولون غيره .
وانتصب ( كذابا ) على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة تكذيبهم بالآيات .