فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى .
جملة
فأخذه الله نكال الآخرة والأولى مفرعة عن الجمل التي قبلها ، أي : كان ما ذكر من تكذيبه وعصيانه وكيده سببا لأن أخذه الله ، وهذا هو المقصود من سوق القصة وهو مناط موعظة المشركين وإنذارهم ، مع تسلية النبيء - صلى الله عليه وسلم - وتثبيته .
وحقيقة الأخذ : التناول باليد ، ويستعار كثيرا للمقدرة والغلبة كما قال تعالى :
فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر وقال :
فأخذهم أخذة رابية . والمعنى : فلم يفلت من عقاب الله .
والنكال : اسم مصدر نكل به تنكيلا وهو مثل السلام ، بمعنى التسليم ومعنى النكال : إيقاع أذى شديد على الغير من التشهير بذلك بحيث ينكل أي : يرد ويصرف من يشاهده عن أن يأتي بمثل ما عومل به المنكل به ، فهو مشتق من النكول وهو النكوص والهروب ، قال تعالى :
فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها في سورة البقرة .
وانتصب ( نكال ) على المفعولية المطلقة لفعل ( أخذه ) مبين لنوع الأخذ بنوعين منه ; لأن الأخذ يقع بأحوال كثيرة .
وإضافة ( نكال ) إلى ( الآخرة والأولى ) على معنى ( في ) .
فالنكال في الأولى هو الغرق ، والنكال في الآخرة هو عذاب جهنم .
وقد استعمل النكال في حقيقته ومجازه ; لأن ما حصل
لفرعون في الدنيا هو نكال حقيقي وما يصيبه في الآخرة أطلق عليه النكال ; لأنه يشبه النكال في شدة التعذيب ولا يحصل به نكال يوم القيامة .
[ ص: 82 ] وورود فعل ( أخذه ) بصيغة المضي مع أن عذاب الآخرة مستقبل ليوم الجزاء مراعا فيه أنه لما مات ابتدأ يذوق العذاب حين يرى منزلته التي سيؤول إليها يوم الجزاء كما ورد في الحديث .
وتقديم ( الآخرة ) على الأولى في الذكر ; لأن أمر الآخرة أعظم .
وجاء في آخر القصة بحوصلة وفذلكة لما تقدم فقال :
إن في ذلك لعبرة لمن يخشى فهو في معنى البيان لمضمون جملة
هل أتاك حديث موسى الآيات .
والإشارة بقوله : في ذلك إلى حديث
موسى .
والعبرة : الحالة التي ينتقل الذهن من معرفتها إلى معرفة عاقبتها أو عاقبة أمثالها . وهي مشتقة من العبر ، وهو الانتقال من ضفة واد أو نهر إلى ضفته الأخرى .
والمراد بالعبرة هنا الموعظة .
وتنوين ( عبرة ) للتعظيم ; لأن في هذه القصة مواعظ كثيرة من جهات هي مثلات للأعمال وعواقبها ، ومراقبة الله وخشيته ، وما يترتب على ذلك وعلى ضده من خير وشر في الدنيا والآخرة . وجعل ذلك عبرة لمن يخشى ، أي : من تخالط نفسه خشية الله ; لأن
الذين يخشون الله هم أهل المعرفة الذين يفهمون دلالة الأشياء على لوازمها وخفاياها ، قال تعالى :
إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال :
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون . والخشية تقدمت قريبا في قوله :
وأهديك إلى ربك فتخشى .
وفي هذا تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا بأهل للانتفاع بمثل هذا كما لم ينتفع بمثله
فرعون وقومه .
وفي القصة كلها تعريض بسادة
قريش من أهل الكفر مثل
أبي جهل بتنظيرهم
بفرعون وتنظير الدهماء بالقوم الذين حشرهم
فرعون ونادى فيهم بالكفر ، وقد علم المسلمون مضرب هذا المثل فكان
أبو جهل يوصف عند المسلمين
بفرعون هذه الأمة .
[ ص: 83 ] وتأكيد الخبر ب ( إن ) ولام الابتداء لتنزيل السامعين الذين سيقت لهم القصة منزلة من ينكر ما فيها من المواعظ لعدم جريهم على الاعتبار والاتعاظ بما فيها من المواعظ .