والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها .
انتقل الكلام من الاستدلال بخلق السماء إلى الاستدلال بخلق الأرض ; لأن الأرض أقرب إلى مشاهدتهم وما يوجد على الأرض أقرب إلى علمهم بالتفصيل أو الإجمال القريب من التفصيل .
ولأجل الاهتمام بدلالة
خلق الأرض وما تحتوي عليه من قدم اسم ( الأرض ) على فعله وفاعله فانتصب على طريقة الاشتغال ، والاشتغال يتضمن تأكيدا باعتبار الفعل المقدر العامل في المشتغل عنه الدال عليه الفعل الظاهر المشتغل بضمير الاسم المقدم .
والدحو والدحي يقال : دحوت ودحيت . واقتصر
الجوهري على الواوي وهو الجاري في كلام المفسرين هو : البسط والمد بتسوية .
والمعنى : خلقها مدحوة ، أي : مبسوطة مسواة .
والإشارة من قوله : ( بعد ذلك ) إلى ما يفهم من
بناها رفع سمكها فسواها ، أي : بعد أن خلق السماء خلق الأرض مدحوة .
[ ص: 87 ] والبعدية ظاهرها : تأخر زمان حصول الفعل ، وهذه الآية أظهر في الدلالة على أن
الأرض خلقت بعد السماوات وهو قول
قتادة ،
ومقاتل ،
والسدي ، وهو الذي تؤيده أدلة علم الهيئة . وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى :
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في سورة البقرة ، وما ورد من الآيات مما ظاهره كظاهر آية سورة البقرة تأويله واضح .
ويجوز أن تكون البعدية مجازا في نزول رتبة ما أضيف إليه ( بعد ) عن رتبة ما ذكر قبله كقوله تعالى :
عتل بعد ذلك زنيم .
وجملة
أخرج منها ماءها ومرعاها بدل اشتمال من جملة ( دحاها ) لأن المقصد من دحوها بمقتضى ما يكمل تيسير الانتفاع بها .
ولا يصح جعل جملة
أخرج منها ماءها إلى آخرها بيانا لجملة ( دحاها ) لاختلاف معنى الفعلين .
والمرعى : مفعل من رعى يرعى ، وهو هنا مصدر ميمي أطلق على المفعول كالخلق بمعنى المخلوق ، أي : أخرج منها ما يرعى .
والرعي : حقيقته تناول الماشية الكلأ والحشيش والقصيل .
فالاقتصار على المرعى اكتفاء عن ذكر ما تخرجه الأرض من الثمار والحبوب ; لأن ذكر المرعى يدل على لطف الله بالعجماوات ، فيعرف منه أن اللطف بالإنسان أحرى بدلالة فحوى الخطاب ، والقرينة على الاكتفاء قوله بعده
متاعا لكم ولأنعامكم .
وقد دل بذكر الماء والمرعى على جميع ما تخرجه الأرض قوتا للناس وللحيوان حتى ما تعالج به الأطعمة من حطب للطبخ ؛ فإنه مما تنبت الأرض ، وحتى الملح فإنه من الماء الذي على الأرض .
ونصب الجبال يجوز أن يكون على طريقة نصب
والأرض بعد ذلك دحاها ويجوز أن يكون عطفا على
ماءها ومرعاها ويكون المعنى : وأخرج منها جبالها ، فتكون ( ال ) عوضا عن المضاف إليه مثل :
فإن الجنة هي المأوى أي : مأوى من خاف مقام ربه فإن الجبال قطع من الأرض ناتئة على وجه الأرض .
[ ص: 88 ] وإرساء الجبال : إثباتها في الأرض ، ويقال : رست السفينة ، إذا شدت إلى الشاطئ فوقفت على الأنجر ، ويوصف الجبل بالرسو حقيقة كما في الأساس ، قال
السموأل أو
عبد الملك بن عبد الرحيم يذكر جبلهم :
رسا أصله فوق الثرى وسما به إلى النجم فرع لا ينال طويل
وإثبات الجبال : هو رسوخها بتغلغل صخورها وعروق أشجارها ; لأنها خلقت ذات صخور سائخة إلى باطن الأرض ، ولولا ذلك لزعزعتها الرياح ، وخلقت تتخللها الصخور والأشجار ، ولولا ذلك لتهيلت أتربتها وزادها في ذلك أنها جعلت أحجامها متناسبة بأن خلقت متسعة القواعد ثم تتصاعد متضائقة .
ومن معنى إرسائها : أنها جعلت منحدرة ليتمكن الناس من الصعود فيها بسهولة كما يتمكن الراكب من ركوب السفينة الراسية ولو كانت في داخل البحر ما تمكن من ركوبها إلا بمشقة .