قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره .
استئناف ابتدائي نشأ عن ذكر من استغنى ، فإنه أريد به معين واحد أو أكثر ، وذلك يبينه ما وقع من الكلام الذي دار بين النبيء - صلى الله عليه وسلم - وبين صناديد المشركين في المجلس الذي دخل فيه
nindex.php?page=showalam&ids=100ابن أم مكتوم .
والمناسبة وصف القرآن بأنه تذكرة لمن شاء أن يتذكر ، وإذ قد كان أكبر
[ ص: 120 ] دواعيهم على التكذيب بالقرآن أنه أخبر عن البعث وطالبهم بالإيمان به كان الاستدلال على
وقوع البعث أهم ما يعتنى به في هذا التذكير وذلك من أفنان قوله : فمن شاء ذكره .
والذي عرف بقوله : ( من استغنى ) يشمله العموم الذي أفاده تعريف ( الإنسان ) من قوله تعالى :
قتل الإنسان ما أكفره .
وفعل قتل فلان أصله دعاء عليه بالقتل . والمفسرون الأولون جعلوا ( قتل الإنسان ) أنه لعن ، رواه
الضحاك عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وقاله
مجاهد ،
وقتادة ،
وأبو مالك . قال في الكشاف : دعاء عليه ، وهذا من أشنع دعواتهم . أي : فمورده غير مورد قوله تعالى : قاتلهم الله وقولهم : قاتل الله فلانا ؛ يريدون التعجب من حاله ، وهذا أمر مرجعه للاستعمال ولا داعي إلى حمله على التعجيب ; لأن قوله : ما أكفره يغني عن ذلك .
والدعاء بالسوء من الله تعالى مستعمل في التحقير والتهديد لظهور أن حقيقة الدعاء لا تناسب الإلهية ; لأن الله هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء .
وبناء ( قتل ) للمجهول متفرع على استعماله في الدعاء ، إذ لا غرض في قاتل يقتله ، وكثر في القرآن مبنيا للمجهول نحو
فقتل كيف قدر .
وتعريف ( الإنسان ) يجوز أن يكون التعريف المسمى تعريف الجنس فيفيد استغراق جميع أفراد الجنس ، وهو استغراق حقيقي ، وقد يراد به استغراق معظم الأفراد بحسب القرائن فتولد بصيغة الاستغراق ادعاء لعدم الاعتداد بالقليل من الأفراد ، ويسمى الاستغراق العرفي في اصطلاح علماء المعاني ، ويسمى العام المراد به الخصوص في اصطلاح علماء الأصول ، والقرينة هنا ما بين به كفر الإنسان من قوله :
من أي شيء خلقه إلى قوله :
ثم إذا شاء أنشره ، فيكون المراد من قوله : ( الإنسان ) المشركين المنكرين البعث ، وعلى ذلك جملة المفسرين ، فإن معظم العرب يومئذ كافرون بالبعث .
قال
مجاهد : ما كان في القرآن ( قتل الإنسان ) فإنما عني به الكافر . والأحكام التي يحكم بها على الأجناس يراد أنها غالبة على الجنس ، فالاستغراق
[ ص: 121 ] الذي يقتضيه تعريف لفظ الجنس المحكوم عليه استغراق عرفي معناه ثبوت الحكم للجنس على الجملة ، فلا يقتضي اتصاف جميع الأفراد به ، بل قد يخلو عنه بعض الأفراد وقد يخلو عنه المتصف به في بعض الأحيان ، فقوله : ( ما أكفره ) تعجيب من كفر جنس الإنسان أو شدة كفره وإن كان القليل منه غير كافر .
فآل معنى الإنسان إلى الكفار من هذا الجنس وهم الغالب على نوع الإنسان .
فغالب الناس كفروا بالله من أقدم عصور التاريخ وتفشى الكفر بين أفراد الإنسان وانتصروا له وناضلوا عنه . ولا أعجب من كفر من ألهوا أعجز الموجودات من حجارة وخشب ، أو نفوا أن يكون لهم رب خلقهم .
ويجوز أن يكون تعريف ( الإنسان ) تعريف العهد لشخص معين من الإنسان يعينه خبر سبب النزول ، فقيل : أريد به
أمية بن خلف ، وكان ممن حواه المجلس الذي غشيه
nindex.php?page=showalam&ids=100ابن أم مكتوم ، وعندي أن الأولى أن يكون أراد به
الوليد بن المغيرة .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن المراد
عتبة بن أبي لهب ، وذكر في ذلك قصة لا علاقة لها بخبر المجلس الذي غشيه
nindex.php?page=showalam&ids=100ابن أم مكتوم ، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، والمناسبة ظاهرة .
وجملة ( ما أكفره ) تعليل لإنشاء الدعاء عليه دعاء التحقير والتهديد . وهذا تعجيب من شدة كفر هذا الإنسان .
ومعنى شدة الكفر أن كفره شديد كما ، وكيفا ، ومتى ، لأنه كفر بوحدانية الله ، وبقدرته على إعادة خلق الأجسام بعد الفناء ، وبإرساله الرسول ، وبالوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه كفر قوي ; لأنه اعتقاد قوي لا يقبل التزحزح ، وأنه مستمر لا يقلع عنه مع تكرر التذكير والإنذار والتهديد .
وهذه الجملة بلغت نهاية الإيجاز وأرفع الجزالة بأسلوب غليظ دال على السخط بالغ حد المذمة ، جامع للملامة ، ولم يسمع مثلها قبلها ، فهي من جوامع الكلم القرآنية .
[ ص: 122 ] وحذف المتعلق بلفظ ( أكفره ) لظهوره من لفظ ( أكفر ) وتقديره : ما أكفره بالله .
وفي قوله :
قتل الإنسان ما أكفره محسن الاتزان فإنه من بحر الرمل من عروضه الأولى المحذوفة .
وجملة
من أي شيء خلقه بيان لجملة
قتل الإنسان ما أكفره ; لأن مفاد هذه الجملة الاستدلال على إبطال إحالتهم البعث وذلك الإنكار من أكبر أصول كفرهم .
وجيء في هذا الاستدلال بصورة سؤال وجواب للتشويق إلى مضمونه ، ولذلك قرن الاستفهام بالجواب عنه على الطريقة المتقدمة في قوله تعالى :
عم يتساءلون عن النبأ العظيم .
والاستفهام صوري ، وجعل المستفهم عنه تعيين الأمر الذي به خلق الإنسان ; لأن المقام هنا ليس لإثبات أن الله خلق الإنسان ، بل المقام لإثبات إمكان إعادة الخلق بتنظيره بالخلق الأول على طريقة قوله تعالى :
أفعيينا بالخلق الأول أي : كما كان خلق الإنسان أول مرة من نطفة يكون خلقه ثاني مرة من كائن ما ، ونظيره قوله تعالى :
فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر في سورة الطارق .
والضمير المستتر في قوله : ( خلقه ) عائد إلى الله تعالى المعلوم من فعل الخلق ; لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله خالق الإنسان .
وقدم الجار والمجرور في قوله : (
من نطفة خلقه ) محاكاة لتقديم المبين في السؤال الذي اقتضى تقديمه كونه استفهاما يستحق صدر الكلام ، مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق ، لما في تقديمه من التنبيه للاستدلال على عظيم حكمة الله تعالى ؛ إذ كون أبدع مخلوق معروف من أهون شيء وهو النطفة .
وإنما لم يستغن عن إعادة فعل ( خلقه ) في جملة الجواب مع العلم به بتقدم ذكر حاصله في السؤال لزيادة التنبيه على دقة ذلك الخلق البديع .
[ ص: 123 ] فذكر فعل ( خلقه ) الثاني في أسلوب المساواة ليس بإيجاز ، وليس بإطناب .
والنطفة : الماء القليل ، وهي فعلة بمعنى مفعولة كقولهم : قبضة حب ، وغرفة ماء . وغلب إطلاق النطفة على الماء الذي منه التناسل ، فذكرت النطفة لتعين ذكرها لأنها مادة خلق الحيوان للدلالة على أن صنع الله بديع ، فإمكان البعث حاصل ، وليس في ذكر النطفة هنا إيماء إلى تحقير أصل نشأة الإنسان ; لأن قصد ذلك محل نظر ، على أن المقام هنا للدلالة على خلق عظيم وليس مقام زجر المتكبر .
وفرع على فعل ( خلقه ) فعل ( فقدره ) بفاء التفريع ; لأن التقدير هنا إيجاد الشيء على مقدار مضبوط منظم ، كقوله تعالى :
وخلق كل شيء فقدره تقديرا ، أي : جعل التقدير من آثار الخلق لأنه خلقه متهيئا للنماء وما يلابسه من العقل والتصرف وتمكينه من النظر بعقله ، والأعمال التي يريد إتيانها ، وذلك حاصل مع خلقه مدرجا مفرعا .
وهذا التفريع وما عطف عليه إدماج للامتنان من خلال الاستدلال .
وحرف ( ثم ) من قوله :
ثم السبيل يسره للتراخي الرتبي ; لأن تيسير سبيل العمل الإنساني أعجب في الدلالة على بديع صنع الله ; لأنه أثر العقل وهو أعظم ما في خلق الإنسان وهو أقوى في المنة .
والسبيل : الطريق ، وهو مستعار لما يفعله الإنسان من أعماله وتصرفاته تشبيها للأعمال بطريق يمشي فيه الماشي تشبيه المحسوس بالمعقول .
ويجوز أن يكون مستعارا لمسقط المولود من بطن أمه ، فقد أطلق على ذلك الممر اسم السبيل في قولهم ( السبيلان ) فيكون هذا من استعمال اللفظ في مجازيه . وفيه مناسبة لقوله بعده
ثم أماته فأقبره ، ف ( أماته ) مقابل ( خلقه ) ، و ( أقبره ) مقابل
ثم السبيل يسره ; لأن الإقبار إدخال في الأرض وهو ضد خروج المولود إلى الأرض .
والتيسير : التسهيل ، و ( السبيل ) منصوب بفعل مضمر على طريق
[ ص: 124 ] الاشتغال ، والضمير عائد إلى ( السبيل ) . والتقدير : يسر السبيل له ، كقوله :
ولقد يسرنا القرآن للذكر أي : لذكر الناس .
وتقديم ( السبيل ) على فعله للاهتمام بالعبرة بتيسير السبيل بمعنييه المجازيين ، وفيه رعاية للفواصل .
وكذلك عطف ( ثم أماته ) على ( يسره ) بحرف التراخي وهو لتراخي الرتبة فإن انقراض تلك القوى العقلية والحسية بالموت بعد أن كانت راسخة زمنا ما ، انقراض عجيب دون تدريج ولا انتظار زمان يساوي مدة بقائها ، وهذا إدماج للدلالة على عظيم القدرة .
ومن المعلوم بالضرورة أن الكثير الذي لا يحصى من أفراد النوع الإنساني قد صار أمره إلى الموت وأن من هو حي آيل لا محالة ، فالمعنى : ثم أماته ويميته .
فصيغة المضي في قوله : ( أماته ) مستعملة في حقيقته وهو موت من مات ، ومجازه وهو موت من سيموتون ; لأن موتهم في المستقبل محقق . وذكر جملة ( ثم أماته ) توطئة وتمهيد لجملة ( فأقبره ) .
وإسناد الإماتة إلى الله تعالى حقيقة عقلية بحسب عرف الاستعمال . وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال كما أدمج فقدره
ثم السبيل يسره فيما سبق .
و ( أقبره ) جعله ذا قبر ، وهو أخص من معنى قبره ، أي أن الله سبب له أن يقبر . قال
الفراء : أي : ( جعله مقبورا ، ولم يجعله ممن يلقى للطير والسباع ولا ممن يلقى في النواويس ) جمع ناووس : صندوق من حجر أو خشب يوضع فيه الميت ويجعل في بيت أو نحوه .
والإقبار : تهيئة القبر . ويقال : أقبره أيضا ، إذا أمر بأن يقبر ، ويقال : قبر الميت ، إذا دفنه ، فالمعنى : أن الله جعل الناس ذوي قبور .
وإسناد الإقبار إلى الله تعالى مجاز عقلي ; لأن الله ألهم الناس الدفن كما في قصة دفن أحد ابني
آدم أخاه بإلهام تقليده لفعل غراب حفر لغراب آخر ميت حفرة
[ ص: 125 ] فواراه فيها ، وهي في سورة العقود ، فأسند الإقبار إلى الله لأنه ألهم الناس إياه . وأكد ذلك بما أمر في شرائعه من
وجوب دفن الميت .
والقول في أن صيغة المضي مستعملة في حقيقتها ومجازها نظير القول في صيغة ( أماته ) .
وهذه كلها دلائل على
عظيم قدرة الله تعالى وهم عدوها قاصرة على الخلق الثاني ، وهي تتضمن مننا على الناس في خلقهم وتسويتهم وإكمال قواهم أحياء ، وإكرامهم أمواتا بالدفن لئلا يكون الإنسان كالشيء اللقي يجتنب بنو جنسه القرب منه ، ويهينه التقام السباع وتمزيق مخالب الطير والكلاب ، فمحل المنة في قوله : ( ثم أماته ) هو فيما فرع عليه بالفاء بقوله : ( فأقبره ) وليست الإماتة وحدها منة .
وفي الآية دليل على أن وجوب دفن أموات الناس بالإقبار دون الحرق بالنار كما يفعل
مجوس الهند ، ودون الإلقاء لسباع الطير في ساحات في الجبال محوطة بجدران دون سقف كما كان يفعله
مجوس الفرس ، وكما كان يفعله أهل الجاهلية بموتى الحروب والغارات في الفيافي ، إذ لا يوارونهم بالتراب وكانوا يفتخرون بذلك ويتمنونه ، قال
الشنفرى :
لا تقبروني إن قبري محرم عليكم ولكن أبشري
أم عامر
يريد أن تأكله الضبع ، وأبطل الإسلام ذلك ، فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - دفن شهداء المسلمين يوم
أحد في قبور مشتركة ، ووارى قتلى المشركين
ببدر في قليب ، قال
عمرو بن معديكرب قبل الإسلام :
آليت لا أدفن قتلاكم
فدخنوا المرء وسرباله
وجملة
ثم إذا شاء أنشره رجوع إلى
إثبات البعث ، وهي كالنتيجة عقب الاستدلال . ووقع قوله : ( إذا شاء ) معترضا بين جملة ( أماته ) وجملة ( أنشره ) لرد توهم المشركين أن عدم التعجيل بالبعث دليل على انتفاء وقوعه في المستقبل و ( إذا ) ظرف للمستقبل ففعل المضي بعدها مؤول بالمستقبل . والمعنى : ثم حين يشاء ينشره ، أي : ينشره حين تتعلق مشيئته بإنشاره .
[ ص: 126 ] وأنشره بعثه من الأرض ، وأصل النشر إخراج الشيء المخبأ ، يقال : نشر الثوب ، إذ أزال طيه ، ونشر الصحيفة ، إذا فتحها ليقرأها . ومنه الحديث فنشروا التوراة .
وأما الإنشار بالهمزة فهو خاص بإخراج الميت من الأرض حيا وهو البعث ، فيجوز أن يقال : نشر الميت ، والعرب لم يكونوا يعتقدون إحياء الأموات إلا أن يكونوا قد قالوه في تخيلاتهم التوهمية ، فيكون منه قول
الأعشى :
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر
ولذلك قال الله تعالى :
ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين .
وفي قوله : (
إذا شاء ) رد لشبهتهم ، إذ كانوا يطلبون تعجيل البعث تحديا وتهكما ليجعلوا عدم الاستجابة بتعجيله دليلا على أنه لا يكون ، فأعلمهم الله أنه يقع عندما يشاء الله وقوعه لا في الوقت الذي يسألونه ; لأنه موكول إلى حكمة الله واستفادة إبطال قولهم من طريق الكناية .