كلا لما يقض ما أمره
تفسير هذه الآية معضل وكلمات المفسرين والمتأولين فيها بعضها جاف المنال ، وبعضها جاف عن الاستعمال ، ذلك أن المعروف في ( كلا ) أنه حرف ردع وزجر عن كلام سابق أو لاحق ، وليس فيما تضمنه ما سبقها ولا فيما بعدها ما ظاهره أن يزجر عنه ولا أن يبطل ، فتعين المصير إلى تأويل مورد ( كلا ) .
فأما الذين التزموا أن يكون حرف ( كلا ) للردع والزجر وهم
الخليل ،
nindex.php?page=showalam&ids=16076وسيبويه ، وجمهور نحاة البصرة ويجيزون الوقوف عليها كما يجيزون الابتداء بها ، فقد تأولوا هذه الآية وما أشبهها بتوجيه الإنكار إلى ما يومئ إليه الكلام السابق أو اللاحق دون صريحه ولا مضمونه .
فمنهم من يجعل الردع متوجها إلى ما قبل ( كلا ) مما يومئ إليه قوله تعالى :
ثم إذا شاء أنشره ، أي : إذا شاء الله ؛ إذ يومئ إلى أن الكافر ينكر أن ينشره الله
[ ص: 127 ] ويعتل بأنه لم ينشر أحد منذ القدم إلى الآن . وهذا الوجه هو الجاري على قول البصريين كما تقدم .
وموقع ( كلا ) على هذا التأويل موقع الجواب بالإبطال ، وموقع جملة (
لما يقض ما أمره ) موقع العلة للإبطال ، أي : لو قضى ما أمره الله به لعلم بطلان زعمه أنه لا ينشر .
وتأوله في الكشاف بأنه ردع للإنسان عما هو عليه أي : مما ذكر قبله من شدة كفره واسترساله عليه دون إقلاع ، يريد أنه زجر غير مضمون (
ما أكفره ) .
ومنهم من جعل الردع متوجها إلى ما بعد ( كلا ) مما يومئ إليه قوله تعالى : (
لما يقض ما أمره ) أي : ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله الذي نبهه إليه بدعوة الرسل وبإيداع قوة التفكير فيه ، ويستروح هذا من كلام روي عن
مجاهد ، وهو أقرب ; لأن ما بعد ( كلا ) لما كان نفيا ناسب أن يجعل ( كلا ) تمهيدا للنفي .
وموقع ( كلا ) على هذا الوجه أنها جزء من استئناف .
وموقع جملة
لما يقض ما أمره استئناف بياني نشأ عن مضمون جملة
من أي شيء خلقه إلى قوله : أنشره ، أي : إنما لم يهتد الكافر إلى دلالة الخلق الأول على إمكان الخلق الثاني ، لأنه لم يقض حق النظر الذي أمره الله .
وأما الذين لم يلتزموا معنى الزجر في ( كلا ) وهم
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي القائل : تكون ( كلا ) بمعنى حقا ، ووافقه
ثعلب ،
nindex.php?page=showalam&ids=11971وأبو حاتم السجستاني القائل : تكون ( كلا ) بمعنى ( ألا ) الاستفتاحية .
nindex.php?page=showalam&ids=15409والنضر بن شميل ،
nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء القائلان : تكون ( كلا ) حرف جواب بمعنى نعم .
فهؤلاء تأويل الكلام على رأيهم ظاهر .
وعن
الفراء ( كلا ) تكون صلة ( أي حرفا زائدا للتأكيد ) كقولك : كلا ورب الكعبة اهـ . وهذا وجه إليه ولا يتأتى في هذه الآية .
فالوجه في موقع كلا هنا أنه يجوز أن تكون زجرا عما يفهم من قوله :
[ ص: 128 ] ثم إذا شاء أنشره المكنى به عن فساد استدلالهم بتأخيره على أنه لا يقع ، فيكون الكلام على هذا تأكيدا للإبطال الذي في قوله :
كلا إنها تذكرة باعتبار معناه الكنائي إن كان صريح معناه غير باطل فقوله : ( إذا شاء ) مؤذن بأنه الآن لم يشأ وذلك مؤذن بإبطال أن يقع البعث عندما يسألون وقوعه ، أي : أنا لا نشاء إنشارهم الآن ، وإنما ننشرهم عندما نشاء مما قدرنا أجله عند خلق العالم الأرضي .
وتكون جملة
لما يقض ما أمره تعليلا للردع ، أي : الإنسان لم يستتم ما أجل الله لبقاء نوعه في هذا العالم من يوم تكوينه فلذلك لا ينشر الآن ، ويكون المراد بالأمر في قوله : ( ما أمره ) أمر التكوين ، أي : لم يستتم ما صدر به أمر تكوينه حين قيل
لآدم ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين .
ويجوز أن يكون زجرا عما أفاده قوله :
لما يقض ما أمره وقدمت ( كلا ) في صدر الكلام الواردة لإبطاله للاهتمام بمبادرة الزجر .
وتقدم الكلام على ( كلا ) في سورة مريم وأحلت هنالك على ما هنا .
و ( لما ) حرف نفي يدل على نفي الفعل في الماضي مثل ( لم ) ويزيد بالدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم كقوله تعالى :
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .
والمقصود أنه مستمر على عدم قضاء ما أمره الله مما دعاه إليه .
والقضاء : فعل ما يجب على الإنسان كاملا ; لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلا تاما ، أي : لم يزل الإنسان الكافر معرضا عن الإيمان الذي أمره الله به ، وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطوره أطوارا إلى الموت قال تعالى :
فلينظر الإنسان مم خلق ، وما أمره من التدبر في القرآن ودلائله ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه . ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر .
والضمير المستتر في ( أمره ) عائد إلى ما عادت عليه الضمائر المستترة في " خلقه ، وقدره ، وأماته ، وأقبره ، وأنشره " .