فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق .
الفاء لتفريع القسم وجوابه ، على التفصيل الذي في قوله :
فأما من أوتي كتابه بيمينه إلى هنا : فإنه اقتضى أن ثمة حسابا وجزاء بخير وشر ، فكان هذا التفريع فذلكة وحوصلة لما فصل من الأحوال وكان أيضا جمعا إجماليا لما يعترض في ذلك من الأهوال .
وتقدم أن لا أقسم يراد منه أقسم ، وتقدم وجه القسم بهذه الأحوال والمخلوقات عند قوله :
فلا أقسم بالخنس في سورة التكوير .
ومناسبة الأمور المقسم بها هنا للمقسم عليه ; لأن الشفق والليل والقمر تخالط أحوالا بين الظلمة وظهور النور معها ، أو في خلالها ، وذلك مناسب لما في قوله :
لتركبن طبقا عن طبق من تفاوت الأحوال التي يتخبط فيها الناس يوم القيامة أو في حياتهم الدنيا ، أو من ظهور أحوال خير في خلال أحوال شر أو انتظار تغير الأحوال إلى ما يرضيهم إن كان الخطاب للمسلمين خاصة كما سيأتي .
ولعل ذكر الشفق إيماء إلى أنه يشبه حالة انتهاء الدنيا ; لأن غروب الشمس مثل حالة الموت ، وأن ذكر الليل إيماء إلى
شدة الهول يوم الحساب ، وذكر القمر إيماء إلى حصول
الرحمة للمؤمنين .
والشفق : اسم للحمرة التي تظهر في أفق مغرب الشمس إثر غروبها ، وهو ضياء من شعاع الشمس إذا حجبها عن عيون الناس بعض جرم الأرض ، واختلف في تسمية البياض الذي يكون عقب الاحمرار شفقا .
[ ص: 227 ] و ما وسق ( ما ) فيه مصدرية ، ويجوز أن يكون موصولة على طريقة حذف العائد المنصوب .
والوسق : جمع الأشياء بعضها على بعض ، فيجوز أن يكون المعنى وما جمع مما كان منتشرا في النهار من ناس وحيوان فإنها تأوي في الليل إلى مآويها ، وذلك مما جعل الله في الجبلة من طلب الأحياء السكون في الليل قال تعالى :
ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ، وذلك من بديع التكوين ، فلذلك أقسم به قسما أدمجت فيه منة .
وقيل : ما وسقه الليل : النجوم ، لأنها تظهر في الليل ، فشبه ظهورها فيه بوسق الواسق أشياء متفرقة . وهذا أنسب بعطف القمر عليه .
واتساق القمر : اجتماع ضيائه ، وهو افتعال من الوسق بمعنى الجمع كما تقدم آنفا ، وذلك في ليلة البدر ، وتقييد القسم به بتلك الحالة لأنها مظهر نعمة الله على الناس بضيائه .
وأصل فعل اتسق : اوتسق قلبت الواو تاء فوقية طلبا لإدغامها في تاء الافتعال وهو قلب مطرد .
وجملة
لتركبن طبقا عن طبق نسج نظمها نسجا مجملا لتوفير المعاني التي تذهب إليها أفهام السامعين ، فجاءت على أبدع ما ينسج عليه الكلام الذي يرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسج الوافر المعنى ; ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها .
فلمعاني الركوب المجازية ، ولمعاني الطبق من حقيقي ومجازي ، متسع لما تفيده الآية من المعاني ، وذلك ما جعل لإيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان
الإعجاز القرآني .
فأما فعل لتركبن فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في الكلام ، أو التي يصح أن تراد في الآية عدة ، منها الغلب والمتابعة ، والسلوك ، والاقتحام ، والملازمة ، والرفعة .
[ ص: 228 ] وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال : ركب أمرا صعبا وارتكب خطأ .
وأما كلمة طبق فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئا آخر في حجمه وقدره ، وظاهر كلام الأساس والصحاح أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشيء لمساويه فهو حقيقة في الغطاء ، فيكون في الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيد كالخوان والكأس ، وظاهر الكشاف أن حقيقته مطلق المساواة ، فيكون قيد الاعتلاء عارضا بغلبة الاستعمال ، يقال : طابق النعل النعل .
وأياما كان فهو اسم على وزن فعل ، إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عومل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق ، وإما أن يكون أصله اسم الطبق وهو الغطاء لوحظ في التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة .
ويطلق اسما مفردا للغطاء الذي يغطى به ، ومنه قولهم في المثل وافق شن طبقة أي : غطاءه وهذا من الحقيقة ; لأن الغطاء مساو لما يغطيه . ويطلق الطبق على الحالة ; لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طبق عليه .
ويطلق اسما مفردا أيضا على شيء متخذ من أدم أو عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها ، وكأنه سمي طبقا لأن أصله يستعمل غطاء الآنية فتوضع فيه أشياء .
ويطلق اسم جمع لطبقة ، وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثله في المقدار إلا أنه مرتفع عليه ، وهذا من المجاز يقال : أتانا طبق من الناس ، أي : جماعة .
ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى ( عن ) من مجاوزة وهي معنى حقيقي ، أو من مرادفة كلمة ( بعد ) وهو معنى مجازي .
وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقا بين المفعول به والحال ، وتزداد هذه المحامل إذا لم تقصر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية
يا أيها الإنسان إنك كادح الآيات . ومن وقوعها بعد القسم المشعر
[ ص: 229 ] بالتأكيد ، ومن اقتضاء فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل ، فتتركب من هذه المحامل معان كثيرة صالحة لتأويل الآية .
فقيل المعنى : لتركبن حالا بعد حال ، رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عن النبيء صلى الله عليه وسلم ، والأظهر أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين طبق في الموضعين للتعظيم والتهويل وعن بمعنى ( بعد ) والبعدية اعتبارية ، وهي بعدية ارتقاء ، أي : لتلاقن هولا أعظم من هول ، كقوله تعالى :
زدناهم عذابا فوق العذاب . وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل ; لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها .
وروى
أبو نعيم عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله تفسير الأحوال بأنها أحوال موت وإحياء ، وحشر ، وسعادة أو شقاوة ، ونعيم أو جحيم ، كما يكتب الله لكل أحد عند تكوينه رواه
جابر عن النبيء صلى الله عليه وسلم وقال
ابن كثير : هو حديث منكر وفي إسناده ضعفاء . أو حالا بعد حال من شدائد القيامة ، وروي هذا عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وعكرمة والحسن مع اختلاف في تعيين الحال .
وقيل : لتركبن منزلة بعد منزلة على أن طبقا اسم منزلة ، وروي عن
ابن زيد nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير أي : لتصيرن من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة ، أو إن قوما كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة ، فالتنوين فيها للتفريع .
وقيل : من كان على صلاح دعاه إلى صلاح آخر ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه ; لأن كل شيء يجر إلى شكله ، أي : فتكون الجملة اعتراضا بالموعظة وتكون عن على هذا على حقيقتها للمجاوزة ، والتنوين للتعظيم .
ويحتمل أن يكون الركوب مجازا في السير بعلاقة الإطلاق ، أي : لتحضرن للحساب جماعات بعد جماعات على معنى قوله تعالى :
إلى ربك يومئذ المساق وهذا تهديد لمنكريه ، أي : يكون الركوب مستعملا في المتابعة ، أي : لتتبعن . وحذف مفعول تركبن بتقدير : ليتبعن بعضكم بعضا ، أي : في تصميمكم على
إنكار البعث . ودليل المحذوف هو قوله :
طبقا عن طبق ويكون طبقا مفعولا به وانتصاب طبقا إما على الحال من ضمير تركبن وإما على المفعولية به على حسب ما يليق بمعاني ألفاظ الآية .
[ ص: 230 ] وموقع
عن طبق موقع النعت لـ طبقا .
ومعنى عن إما مجازية وأما مرادفة معنى ( بعد ) وهو مجاز ناشئ عن معنى المجاوزة ، ولذلك ضمن النابغة معنى قولهم ( ورثوا المجد كابرا عن كابر ) غير حرف ( عن ) إلى كلمة ( بعد ) فقال :
لآل الجلاح كابرا بعد كابر
وقرأ
نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ( لتركبن ) بضم الموحدة على خطاب الناس ، وقرأه الباقون بفتح الموحدة على أنه خطاب للإنسان من قوله تعالى :
يا أيها الإنسان إنك كادح . وحمل أيضا على أن التاء الفوقية تاء المؤنثة الغائبة وأن الضمير عائد إلى السماء ، أي : تعتريها أحوال متعاقبة من الانشقاق والطي وكونها مرة كالدهان ومرة كالمهل . وقيل : خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ، قال
ابن عطية : قيل هي عدة بالنصر ، أي : لتركبن أمر العرب قبيلا بعد قبيل وفتحا بعد فتح ، كما وجد بعد ذلك أي : بعد نزول الآية حين قوي جانب المسلمين فيكون بشارة للمسلمين ، وتكون الجملة معترضة بالفاء بين جملة
إنه ظن أن لن يحور وجملة
فما لهم لا يؤمنون . وهذا الوجه يجري على كلتا القراءتين .