سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى .
قد عرفت أن الأمر بالتسبيح في قوله :
سبح اسم ربك الأعلى بشارة إجمالية للنبيء صلى الله عليه وسلم بخير يحصل له ، فهذا موقع البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يقرئه فيبلغه كما أوحى إليه ويحفظه من التفلت عليه ، ولهذا تكون هذه الجملة استئنافا بيانيا ; لأن البشارة تنشئ في نفس النبيء صلى الله عليه وسلم ترقبا لوعد بخير يأتيه فبشره بأنه سيزيده من الوحي ، مع ما فرع على قوله : سنقرئك من قوله : فلا تنسى .
وإذا قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولا . وقد ثبت في الصحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=2002828أن النبيء صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شدة إذا نزل جبريل ، وكان مما يحرك شفتيه ولسانه ، يريد أن يحفظه ويخشى أن يتفلت عليه فقيل له : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه إن علينا أن نجمعه في صدرك ، وقرآنه أن تقرأه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه يقول : إذا أنزل عليك فاستمع ، قال : فكان إذا أتاه جبريل أطرق ، فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله وسورة القيامة التي منها
لا تحرك به لسانك نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله :
سنقرئك فلا تنسى وعد من الله بعونه على حفظ جميع ما يوحى إليه .
[ ص: 280 ] وإنما ابتدئ بقوله : سنقرئك تمهيدا للمقصود الذي هو
فلا تنسى وإدماجا للإعلام بأن القرآن في تزايد مستمر ، فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أوحي إليه على حين قلته فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده .
والسين علامة على استقبال مدخولها ، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصة إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم ، فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذا قد كان قوله :
سنقرئك فلا تنسى إقراء ، فالسين دالة على أن الإقراء يستمر ويتجدد .
والالتفات بضمير المتكلم المعظم ; لأن التكلم أنسب بالإقبال على المبشر .
وإسناد الإقراء إلى الله مجاز عقلي ; لأنه جاعل الكلام المقروء وآمر بإقرائه .
فقوله :
فلا تنسى خبر مراد به الوعد والتكفل له بذلك .
والنسيان : عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة أو زمانا طويلا .
والاستثناء في قوله :
إلا ما شاء الله مفرغ من فعل تنسى ، وما موصولة هي المستثنى . والتقدير : إلا الذي شاء الله أن تنساه ، فحذف مفعول فعل المشيئة جريا على غالب استعماله في كلام العرب . وانظر ما تقدم في قوله :
ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم في سورة البقرة .
والمقصود بهذا أن
بعض القرآن ينساه النبيء صلى الله عليه وسلم إذا شاء الله أن ينساه . وذلك نوعان :
أحدهما وهو أظهرهما : أن الله إذا شاء نسخ تلاوة بعض ما أنزل على النبيء صلى الله عليه وسلم أمره بأن يترك قراءته ، فأمر النبيء صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن لا يقرءوه حتى ينساه النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمون . وهذا مثلما روي عن
عمر أنه قال : " كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما " قال
عمر : لقد قرأناها ، وأنه كان فيما أنزل " لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم " . وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : أو ننسها في قراءة من قرأ ننسها في سورة البقرة .
[ ص: 281 ] النوع الثاني ما يعرض نسيانه للنبيء صلى الله عليه وسلم نسيانا مؤقتا ، كشأن عوارض الحافظة البشرية ثم يقيض الله له ما يذكره به . ففي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
عائشة قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002829سمع النبيء صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ من الليل بالمسجد فقال : يرحمه الله ، فقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن أو كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة فسأله
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب أنسخت ؟ فقال : نسيتها .
وليس قوله :
فلا تنسى من الخبر المستعمل في النهي عن النسيان ; لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف ، أما إنه ليست لا فيه ناهية فظاهر ومن زعمه تعسف لتعليل كتابة الألف في آخره .
وجملة
إنه يعلم الجهر وما يخفى معترضة وهي تعليل لجملة
فلا تنسى إلا ما شاء الله فإن مضمون تلك الجملة
ضمان الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن من النقص العارض .
ومناسبة ( الجهر وما يخفى ) أن ما يقرؤه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن هو من قبيل الجهر فالله يعلمه ، وما ينساه فيسقطه من القرآن وهو من قبيل الخفي فيعلم الله أنه اختفى في حافظته حين القراءة فلم يبرز إلى النطق به .