وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع .
وجوه مبتدأ وخاشعة خبر والجملة بيان لحديث الغاشية كما يفيده الظرف من قوله : يومئذ فإن ما صدقه هو يوم الغاشية . ويكون تنكير وجوه مبتدأ قصد منه النوع .
و ( خاشعة ، عاملة ، ناصبة ) أخبار ثلاثة عن وجوه ، والمعنى : أناس خاشعون إلخ .
فالوجوه كناية عن أصحابها ، إذ يكنى بالوجه عن الذات كقوله تعالى :
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . وقرينة ذلك هنا قوله بعده
ليس لهم طعام إلا من ضريع إذ جعل ضمير الوجوه جماعة العقلاء .
وأوثرت الوجوه بالكناية عن أصحابها هنا وفي مثل هذا المقام ; لأن حالة الوجوه تنبئ عن حالة أصحابها ، إذ الوجه عنوان عما يجده صاحبه من نعيم أو شقوة ، كما يقال : خرج بوجه غير الوجه الذي دخل به .
وتقدم في قوله تعالى :
وجوه يومئذ مسفرة الآية في سورة عبس .
ويجوز أن يجعل إسناد الخشوع والعمل والنصب إلى وجوه من قبيل المجاز العقلي ، أي : أصحاب وجوه .
ويتعلق يومئذ بـ ( خاشعة ) قدم على متعلقه للاهتمام بذلك اليوم ولما كانت إذ من الأسماء التي تلزم الإضافة إلى جملة فالجملة المضاف إليها إذ
[ ص: 296 ] محذوفة عوض عنها التنوين ، ويدل عليها ما في اسم الغاشية من لمح أصل الوصفية ; لأنها بمعنى التي تغشى الناس فتقدير الجملة المحذوفة يوم إذ تغشى الغاشية .
أو يدل على الجملة سياق الكلام فتقدر الجملة : يوم إذ تحدث أو تقع .
وخاشعة : ذليلة يطلق الخشوع على المذلة قال تعالى :
وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل وقال :
خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة .
والعاملة : المكلفة العمل من المشاق يومئذ . وناصبة : من النصب وهو التعب .
وأوثر وصف خاشعة وعاملة وناصبة تعريضا بأهل الشقاء بتذكيرهم بأنهم تركوا الخشوع لله والعمل بما أمر به والنصب في القيام بطاعته ، فجزائهم خشوع ومذلة ، وعمل مشقة ، ونصب إرهاق .
وجملة
تصلى نارا حامية خبر رابع عن وجوه . ويجوز أن تكون حالا ، يقال : صلي يصلى ، إذ أصابه حر النار ، وعليه فذكر نارا بعد تصلى لزيادة التهويل والإرهاب وليجرى على نارا وصف حامية .
وقرأ الجمهور تصلى بفتح التاء أي : يصيبها صلي النار . وقرأه
أبو عمرو وأبو بكر عن
عاصم ويعقوب تصلى بضم التاء من أصلاه النار بهمزة التعدية إذا أناله حرها .
ووصف النار بـ حامية لإفادة تجاوز حرها المقدار المعروف ; لأن الحمي من لوازم ماهية النار فلما وصفت بـ حامية كان دالا على شدة الحمى قال تعالى :
نار الله الموقدة .
وأخبر عن وجوه خبرا خامسا بجملة
تسقى من عين آنية أو هو حال من ضمير تصلى ; لأن ذكر الاحتراق بالنار يحضر في الذهن تطلب إطفاء حرارتها بالشراب فجعل شرابهم من عين آنية .
[ ص: 297 ] يقال : أنى إذا بلغ شدة الحرارة ، ومنه قوله تعالى :
يطوفون بينها وبين حميم آن في سورة الرحمن .
وذكر السقي يخطر في الذهن تطلب معرفة ما يطعمونه فجيء به خبرا سادسا أو حالا من ضمير تسقى بجملة
ليس لهم طعام إلا من ضريع ، أي : يطعمون طعام إيلام وتعذيب لا نفع فيه لهم ولا يدفع عنهم ألما .
وجملة
ليس لهم طعام إلخ خبر سادس عن وجوه .
وضمير لهم عائد إلى وجوه باعتبار تأويله بأصحاب الوجوه ولذلك جيء به ضمير جماعة المذكر . والتذكير تغليب للذكور على الإناث .
والضريع : يابس الشبرق بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة وكسر الراء وهو نبت ذو شوك إذا كان رطبا ، فإذا يبس سمي ضريعا وحينئذ يصير مسموما وهو مرعى للإبل ولحمر الوحش إذا كان رطبا ، فما يعذب بأهل النار بأكله شبه بالضريع في سوء طعمه وسوء مغبته .
وقيل : الضريع اسم سمى القرآن به شجرا في جهنم وأن هذا الشجر هو الذي يسيل منه الغسلين الوارد في قوله تعالى :
فليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلا من غسلين وعليه فحرف من للابتداء ، أي : ليس لهم طعام إلا ما يخرج من الضريع والخارج هو الغسلين وقد حصل الجمع بين الآيتين : ووصف ضريع بأنه لا يسمن ولا يغني من جوع لتشويهه وأنه تمحض للضر فلا يعود على آكليه بسمن يصلح بعض ما التفح من أجسادهم ، ولا يغني عنهم دفع ألم الجوع ، ولعل الجوع من ضروب تعذيبهم فيسألون الطعام فيطعمون الضريع فلا يدفع عنهم ألم الجوع .
والسمن ، بكسر السين وفتح الميم : وفرة اللحم والشحم للحيوان يقال : أسمنه الطعام ، إذا عاد عليه بالسمن .
والإغناء : الإكفاء ودفع الحاجة . ومن جوع متعلق بـ يغني وحرف من لمعنى البدلية ، أي : غناء بدلا عن الجوع .
[ ص: 298 ] والقصر المستفاد من قوله :
ليس لهم طعام إلا من ضريع مع قوله تعالى :
ولا طعام إلا من غسلين يؤيد أن الضريع اسم شجر جهنم يسيل منه الغسلين .