أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت
لما تقدم التذكير بيوم القيامة ووصف حال أهل الشقاء بما وصفوا به ، وكان قد تقرر فيما نزل من القرآن أن أهل الشقاء هم أهل الإشراك بالله ، فرع على ذلك إنكار عليهم إعراضهم عن النظر في دلائل الوحدانية ، فالفاء في قوله :
أفلا ينظرون تفريع التعليل على المعلل ; لأن فظاعة ذلك الوعيد تجعل المقام مقام استدلال على أنهم محقوقون بوجوب
النظر في دلائل الوحدانية التي هي أصل الاهتداء إلى تصديق ما أخبرهم به القرآن من البعث والجزاء ، وإلى الاهتداء إلى أن منشئ النشأة الأولى عن عدم بما فيها من عظيم الموجودات كالجبال والسماء ، لا يستبعد في جانب قدرته إعادة إنشاء الإنسان بعد فنائه عن عدم ، وهو دون
[ ص: 304 ] تلك الموجودات العظيمة الأحجام ، فكان إعراضهم عن النظر مجلبة لما يجشمهم من الشقاوة وما وقع بين هذا التفريع وبين المفرع عنه من جملة
وجوه يومئذ ناعمة كان في موقع الاعتراض كما علمت .
فضمير ينظرون عائد إلى معلوم من سياق الكلام .
والهمزة للاستفهام الإنكاري إنكارا عليهم إهمال النظر في الحال إلى دقائق صنع الله في بعض مخلوقاته .
والنظر : نظر العين المفيد الاعتبار بدقائق المنظور ، وتعديته بحرف ( إلى ) تنبيه على إمعان النظر ليشعر الناظر مما في المنظور من الدقائق ، فإن قولهم نظر إلى كذا أشد في توجيه النظر من نظر كذا ، لما في ( إلى ) من معنى الانتهاء حتى كأن النظر انتهى عند المجرور بـ ( إلى ) انتهاء تمكن واستقرار كما قال تعالى :
فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك وقوله :
إلى ربها ناظرة .
ولزيادة التنبيه على إنكار هذا الإهمال قيد فعل ينظرون بالكيفيات المعدودة في قوله :
كيف خلقت ،
كيف رفعت ،
كيف نصبت ،
كيف سطحت أي : لم ينظروا إلى دقائق هيئات خلقها .
وجملة
كيف خلقت بدل اشتمال من الإبل والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو فعل ينظرون لا حرف الجر ، فإن حرف الجر آلة لتعدية الفعل إلى مفعوله فالفعل إن احتاج إلى حرف الجر في التعدية إلى المفعول لا يحتاج إليه في العمل في البدل ، وشتان بين ما يقتضيه إعمال المتبوع وما يقتضيه إعمال التابع فكل على ما يقتضيه معناه وموقعه ، فكيف منصوب على الحال بالفعل الذي يليه .
والمعنى والتقدير : أفلا ينظرون إلى الإبل هيئة خلقها .
وقد عدت أشياء أربعة هي من الناظرين ، عن كثب لا تغيب عن أنظارهم ، وعطف بعضها على بعض ، فكان اشتراكها في مرآهم جهة جامعة بينها بالنسبة إليهم ، فإنهم المقصودون بهذا الإنكار والتوبيخ ، فالذي حسن اقتران الإبل مع
[ ص: 305 ] السماء والجبال والأرض في الذكر هنا ، هو أنها تنتظم في نظر جمهور العرب من أهل
تهامة والحجاز ونجد وأمثالها من بلاد أهل الوبر والانتجاع .
فالإبل أموالهم ورواحلهم ، ومنها عيشهم ولباسهم ونسج بيوتهم وهي حمالة أثقالهم ، وقد خلقها الله خلقا عجيبا بقوة قوائمها ويسر بروكها لتيسير حمل الأمتعة عليها ، وجعل أعناقها طويلة قوية ليمكنها النهوض بما عليها من الأثقال بعد تحميلها أو بعد استراحتها في المنازل والمبارك ، وجعل في بطونها أمعاء تختزن الطعام والماء بحيث تصبر على العطش إلى عشرة أيام في السير في المفاوز مما يهلك فيما دونه غيرها من الحيوان .
وكم قد جرى ذكر الرواحل وصفاتها وحمدها في شعر العرب ولا تكاد تخلو قصيدة من طوالها عن وصف الرواحل ومزاياها . وناهيك بما في المعلقات وما في قصيدة
كعب بن زهير .
والإبل : اسم جمع للبعران لا واحد له من لفظه ، وقد تقدم في قوله تعالى :
ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما في سورة الأنعام .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد أنه فسر الإبل في هذه الآية بالأسحبة وتأوله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري بأنه لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ، ولكنه أراد أنه من قبيل التشبيه ، أي : هو على نحو قول
عنترة :
جادت عليه كل بكرة حرة فتركن كل قرارة كالدرهم
ونقل بهم إلى التدبر في
عظيم خلق السماء إذ هم ينظرونها نهارهم وليلهم في إقامتهم وظعنهم ، يرقبون أنواء المطر ويشيمون لمع البروق ، فقد عرف العرب بأنهم بنو ماء السماء ، قال
زيادة الحارثي ( على تردد لشراح الحماسة في تأويل قوله بنو ماء السماء ) :
ونحن بنو ماء السماء فلا نرى لأنفسنا من دون مملكة قصر
وفي كلام
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة وقد ذكر قصة
هاجر ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة في آخرها : " إنها لأمكم يا بني ماء السماء " ويتعرفون من النجوم ومنازل الشمس أوقات الليل والنهار ووجهة السير .
[ ص: 306 ] وأتبع ذكر السماء بذكر الجبال وكانت الجبال منازل لكثير منهم مثل جبلي أجأ وسلمى لطي . وينزلون سفوحها ليكونوا أقرب إلى الاعتصام بها عند الخوف ويتخذون فيها مراقب للحراسة .
والنصب : الرفع أي : كيف رفعت وهي مع ارتفاعها ثابتة راسخة لا تميل .
ثم نزل بأنظارهم إلى الأرض وهي تحت أقدامهم وهي مرعاهم ومفترشهم ، وقد سطحها الله ، أي : خلقها ممهدة للمشي والجلوس والاضطجاع . ومعنى سطحت : يقال سطح الشيء إذا سواه ومنه سطح الدار .
والمراد بالأرض أرض كل قوم لا مجموع الكرة الأرضية .
وبنيت الأفعال الأربعة إلى المجهول للعلم بفاعل ذلك .