بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما .
( بل ) إضراب انتقالي ، والمناسبة بين الغرضين المنتقل منه والمنتقل إليه مناسبة المقابلة لمضمون (
فأكرمه ونعمه ) من جهة ما توهموه أن نعمة مالهم وسعة عيشهم تكريم من الله لهم ، فنبههم الله على أنهم إن أكرمهم الله فإنهم لم يكرموا عبيده شحا بالنعمة ، إذ حرموا أهل الحاجة من فضول أموالهم وإذ يستزيدون من المال ما لا يحتاجون إليه وذلك دحض لتفخرهم بالكرم والبذل .
فجملة (
لا تكرمون اليتيم ) استئناف كما يقتضيه الإضراب ، فهو إما استئناف ابتداء كلام وإما اعتراض بين ( كلا ) وأختها كما سيأتي .
وإكرام اليتيم : سد خلته وحسن معاملته لأنه مظنة الحاجة لفقد عائله ، ولاستيلائهم على الأموال التي يتركها الآباء لأبنائهم الصغار . وقد كانت الأموال في الجاهلية يتداولها رؤساء العائلات .
[ ص: 333 ] والبر لأنه مظنة انكسار الخاطر لشعوره بفقد من يدل هو عليه .
واليتيم : الصبي الذي مات أبوه ، وتقدم في سورة النساء ، وتعريفه للجنس ، أي : لا تكرمون اليتامى ، وكذلك تعريف المسكين .
ونفي
الحض على طعام المسكين نفي لإطعامه بطريق الأولى ، وهي دلالة فحوى الخطاب ، أي : لقلة الاكتراث بالمساكين لا ينفعونهم ولو نفع وساطة ، بله أن ينفعوهم بالبذل من أموالهم .
و ( طعام ) يجوز أن يكون اسما بمعنى المطعوم ، بالتقدير : ولا يحضون على إعطاء طعام المسكين ، فإضافته إلى المسكين على معنى لام الاستحقاق ، ويجوز أن يكون اسم مصدر أطعم ، والمعنى : ولا تحضون على إطعام الأغنياء المساكين ، فإضافته إلى المسكين من إضافة المصدر إلى مفعوله .
والمسكين : الفقير ، وتقدم في سورة براءة .
وقد حصل في الآية احتباك لأنهم لما نفي إكرامهم اليتيم وقوبل بنفي أن يحضوا على طعام المسكين ، علم أنهم لا يحضون على إكرام أيتامهم ، أي : لا يحضون أولياء الأيتام على ذلك ، وعلم أنهم لا يطعمون المساكين من أموالهم .
ويجوز أن يكون الحض على الطعام كناية عن الإطعام ؛ لأن من يحض على فعل شيء يكون راغبا في التلبس به ، فإذا تمكن أن يفعله فعله ، ومنه قوله تعالى : (
وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) أي : عملوا بالحق وصبروا وتواصوا بهما .
وقرأ الجمهور ( لا تكرمون ، ولا تحضون ، وتأكلون ، وتحبون ) بالمثناة الفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات من الغيبة في قوله : (
فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه ) الآيات لقصد مواجهتهم بالتوبيخ ، وهو بالمواجهة أوقع منه بالغيبة . وقرأها
أبو عمرو ويعقوب بالمثناة التحتية على الغيبة لتعريف النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين بذلك فضحا لدخائلهم على نحو قوله تعالى : (
يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد ) .
وقرأ الجمهور : ( ولا تحضون ) بضم الحاء مضارع حض ، وقرأه
عاصم وحمزة [ ص: 334 ] nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وأبو جعفر وخلف ( تحاضون ) بفتح الحاء وألف بعدها ، مضارع حاض بعضهم بعضا ، وأصله ( تتحاضون ) فحذفت إحدى التاءين اختصارا للتخفيف أي : تتمالئون على ترك الحض على الإطعام .
والتراث : المال الموروث ، أي : الذي يخلفه الرجل بعد موته لوارثه ، وأصله : وراث بواو في أوله بوزن فعال من مادة ورث بمعنى مفعول مثل الدقاق ، والحطام ، أبدلت واوه تاء على غير قياس كما فعلوا في تجاه ، وتخمة ، وتهمة ، وتقاة وأشباهها .
والأكل : مستعار للانتفاع بالشيء انتفاعا لا يبقي منه شيئا ، وأحسب أن هذه الاستعارة من مبتكرات القرآن ، إذ لم أقف على مثلها في كلام العرب .
وتعريف التراث عوض عن المضاف إليه . أي : تراث اليتامى وكذلك كان أهل الجاهلية يمنعون النساء والصبيان من أموال مورثيهم .
وأشعر قوله : ( تأكلون ) بأن المراد التراث الذي لا حق لهم فيه ، ومنه يظهر وجه إيثار لفظ التراث دون أن يقال : وتأكلون المال ؛ لأن التراث مال مات صاحبه وأكله يقتضي أن يستحق ذلك المال عاجز عن الذب عن ماله لصغر أو أنوثة .
واللم : الجمع ، ووصف الأكل به وصف بالمصدر للمبالغة ، أي : أكلا جامعا مال الوارثين إلى مال الآكل ، كقوله تعالى :
ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم .
والجم : الكثير ، يقال : جم الماء في الحوض ، إذا كثر ، وبئر جموم بفتح الجيم : كثيرة الماء ، أي : حبا كثيرا ، ووصف الحب بالكثرة مراد به الشدة ؛ لأن الحب معنى من المعاني النفسية لا يوصف بالكثرة التي هي وفرة عدد أفراد الجنس .
فالجم مستعار لمعنى القوي الشديد ، أي : حبا مفرطا ، وذلك محل
ذم حب المال ؛ لأن إفراد حبه يوقع في الحرص على اكتسابه بالوسائل غير الحق ، كالغصب والاختلاس والسرقة وأكل الأمانات .