فأما من ثقلت موازينه [ 6 ]
فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه [ 8 ]
فأمه هاوية [ 9 ]
وما أدريك ما هيه [ 10 ]
نار حامية [ 11 ] )
تفصيل لما في قوله :
يوم يكون الناس كالفراش المبثوث من إجمال حال الناس حينئذ ، فذلك هو المقصود بذكر اسم الناس الشامل لأهل السعادة وأهل الشقاء ، فلذلك كان تفصيله بحالين : حال حسن وحال فظيع .
وثقل الموازين كناية عن كونه بمحل الرضا من الله تعالى لكثرة حسناته ; لأن ثقل الميزان يستلزم ثقل الموزون ، وإنما توزن الأشياء المرغوب في اقتنائها ، وقد شاع عند العرب الكناية عن الفضل والشرف وأصالة الرأي بالوزن ونحوه ، وبضد ذلك يقولون : فلان لا يقام له وزن ، قال تعالى :
فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ، وقال
النابغة :
وميزانه في سورة المجد ماتع
أي : راجح وهذا متبادر في العربية فلذلك لم يصرح في الآية بذكر ما يثقل الموازين لظهور أنه العمل الصالح .
وقد ورد ذكر الميزان للأعمال يوم القيامة كثيرا في القرآن ، قال
ابن العربي في العواصم : لم يرد حديث صحيح في الميزان . والمقصود عدم فوات شيء من الأعمال ، والله قادر على أن يجعل ذلك يوم القيامة بآلة أو بعمل الملائكة أو نحو ذلك .
[ ص: 514 ] والعيشة : اسم مصدر العيش كالخيفة اسم للخوف ، أي : في حياة .
ووصف الحياة بـ ( راضية ) مجاز عقلي ; لأن الراضي صاحبها راض بها ، فوصفت به العيشة لأنها سبب الرضى أو زمان الرضى .
وقوله :
فأمه هاوية إخبار عنه بالشقاء وسوء الحال ، فالأم هنا يجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها . وهاوية : هالكة ، والكلام تمثيل لحال من خفت موازينه يومئذ بحال الهالك في الدنيا ; لأن العرب يكنون عن حال المرء بحال أمه في الخير والشر ؛ لشدة محبتها ابنها ، فهي أشد سرورا بسروره وأشد حزنا بما يحزنه . صلى أعرابي وراء إمام فقرأ الإمام
واتخذ الله إبراهيم خليلا فقال الأعرابي : لقد قرت عين أم
إبراهيم ، ومنه قول
ابن زيابة حين تهدده
الحارث بن همام الشيباني :
يا لهف زيابة للحارث الصا بح فالغانم فالآيب
ويقولون في الشر : هوت أمه ، أي : أصابه ما تهلك به أمه ، وهذا كقولهم : ثكلته أمه ، في الدعاء ، ومنه ما يستعمل في التعجب وأصله الدعاء كقول
كعب بن سعد الغنوي في رثاء أخيه
أبي المغوار :
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يرد الليل حين يئوب
أي : ماذا يبعث الصبح منه غاديا وما يرد الليل حين يئوب غانما ، وحذف منه في الموضعين اعتمادا على قرينة رفع الصبح والليل وذكر : غاديا ويئوب ، و ( من ) المقدرة تجريدية ، فالكلام على التجريد مثل : لقيت منه أسدا .
فاستعمل المركب الذي يقال عند حال الهلاك وسوء المصير في الحال المشبهة بحال الهلاك ، ورمز إلى التشبيه بذلك المركب ، كما تضرب الأمثال السائرة .
ويجوز أن يكون ( أمه ) مستعارا لمقره ومآله ; لأنه يأوي إليه كما يأوي الطفل إلى أمه .
و ( هاوية ) المكان المنخفض بين الجبلين الذي إذا سقط فيه إنسان أو دابة هلك . يقال سقط في الهاوية .
وأريد بها جهنم ، وقيل : هي اسم لجهنم ، أي : فمأواه جهنم .
[ ص: 515 ] ويجوز أن يكون أمه على حذف مضاف ، أي : أم رأسه ، أي : هلك .
وما أدراك ما هيه تهويل كما تقدم آنفا .
وضمير ( هيه ) عائد إلى ( هاوية ) ، فعلى الوجه الأول يكون في الضمير استخدام ، إذ معاد الضمير وصف هالكة ، والمراد منه اسم جهنم ، كما في قول
معاوية بن مالك الملقب معوذ الحكماء :
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
وعلى الوجه الثاني يعود الضمير إلى ( هاوية ) وفسرت بأنها قعر جهنم .
وعلى الوجه الثالث يكون في ( هيه ) استخدام أيضا كالوجه الأول .
والهاء التي لحقت ياء ( هي ) هاء السكت ، هي هاء تجلب لأجل تخفيف اللفظ عند الوقف عليه ، فمنه تخفيف واجب تجلب له هاء السكت لزوما ، وبعضه حسن ، وليس بلازم وذلك في كل اسم أو حرف بآخره حركة بناء دائمة مثل : هو ، وهي ، وكيف ، وثم ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى :
فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه في سورة الحاقة .
وجمهور القراء أثبتوا النطق بهذه الهاء في حالتي الوقف والوصل ، وقرأ
حمزة وخلف بإثبات الهاء في الوقف وحذفها في الوصل .
وجملة
نار حامية بيان لجملة
وما أدراك ما هيه ، والمعنى : هي نار حامية . وهذا من حذف المسند إليه الذي اتبع في حذفه استعمال أهل اللغة .
ووصف ( نار ) بـ ( حامية ) من قبيل التوكيد اللفظي ; لأن النار لا تخلو عن الحمي فوصفها به وصفا بما هو معنى لفظ ( نار ) فكان كذكر المرادف كقوله تعالى :
نار الله الموقدة .