[ ص: 519 ] ألهاكم التكاثر [ 1 ]
حتى زرتم المقابر [ 2 ]
كلا سوف تعلمون [ 3 ]
ثم كلا سوف تعلمون [ 4 ] .
( ألهاكم ) أي : شغلكم عما يجب عليكم الاشتغال به ; لأن اللهو شغل يصرف عن تحصيل أمر مهم .
والتكاثر : تفاعل في الكثر أي : التباري في الإكثار من شيء مرغوب في كثرته ، فمنه تكاثر في الأموال ، ومنه تكاثر في العدد من الأولاد والأحلاف للاعتزاز بهم . وقد فسرت الآية بهما . قال تعالى :
وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين .
وقال
الأعشى :
ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر
روى
مسلم عن
عبد الله بن الشخير قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002901انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول ( ألهاكم التكاثر ) قال : يقول ابن آدم مالي مالي ، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت فهذا جار مجرى التفسير لمعنى من معاني التكاثر اقتضاه حال الموعظة ساعتئذ وتحتمه الآية .
والخطاب للمشركين بقرينة غلظة الوعيد بقوله :
كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ، وقوله :
لترون الجحيم إلى آخر السورة ، ولأن هذا ليس من خلق المسلمين يومئذ .
والمراد بالخطاب : سادتهم وأهل الثراء منهم لقوله :
ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ، ولأن سادة المشركين هم الذين آثروا ما هم فيه من النعمة على التهمم بتلقي دعوة النبيء - صلى الله عليه وسلم - فتصدوا لتكذيبه وإغراء الدهماء بعدم الإصغاء له . فلم يذكر الملهى عنه لظهور أنه القرآن والتدبر فيه ، والإنصاف بتصديقه . وهذا الإلهاء حصل منهم وتحقق كما دل عليه حكايته بالفعل الماضي .
وإذا كان الخطاب للمشركين فلأن المسلمين يعلمون أن التلبس بشيء من هذا
[ ص: 520 ] الخلق مذموم عند الله ، وأنه من خصال أهل الشرك ، فيعلمون أنهم محذرون من التلبس بشيء من ذلك ، فيحذرون من أن يلهيهم حب المال عن شيء من فعل الخير ، ويتوقعون أن يفاجئهم الموت وهم لاهون عن الخير ، قال تعالى يخاطب المؤمنين
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته الآية .
وقوله :
حتى زرتم المقابر غاية ، فيحتمل أن يكون غاية لفعل ( ألهاكم ) كما في قوله تعالى :
قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى أي : دام إلهاء التكاثر إلى أن زرتم المقابر ، أي : استمر بكم طول حياتكم ، فالغاية مستعملة في الإحاطة بأزمان المغيا لا في تنهيته وحصول ضده لأنهم إذا صاروا إلى المقابر انقطعت أعمالهم كلها .
ولكون زيارة المقابر على هذا الوجه عبارة عن الحلول فيها ، أي : قبور المقابر . وحقيقة الزيارة الحلول في المكان حلولا غير مستمر ، فأطلق فعل الزيارة هنا تعريضا بهم بأن حلولهم في المقابر يعقبه خروج منها .
والتعبير بالفعل الماضي في ( زرتم ) لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لأنه محقق وقوعه مثل قوله :
أتى أمر الله .
ويحتمل أن تكون الغاية للمتكاثر به الدال عليه التكاثر ، أي : بكل شيء حتى بالقبور تعدونها . وهذا يجري على ما روى
مقاتل والكلبي أن
بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بكثرة السادة منهم ، كما تقدم في سبب نزولها آنفا ، فتكون الزيارة مستعملة في معناها الحقيقي ، أي : زرتم المقابر لتعدوا القبور ، والعرب يكنون بالقبر عن صاحبه قال
النابغة :
لئن كان للقبرين قبر بجلق وقبر بصيداء الذي عند حارب
وقال
عصام بن عبيد الزماني ، أو
همام الرقاشي :
لو عد قبر وقبر كنت أقربهم قبرا وأبعدهم من منزل الذام
أي : كنت أقربهم منك قبرا ، أي : صاحب قبر .
[ ص: 521 ] والمقابر جمع مقبرة بفتح الموحدة وبضمها . والمقبرة الأرض التي فيها قبور كثيرة .
والتوبيخ الذي استعمل فيه الخبر أتبع بالوعيد على ذلك بعد الموت ، وبحرف الزجر والإبطال بقوله :
كلا سوف تعلمون ، فأفاد ( كلا ) زجرا وإبطالا لإنهاء التكاثر .
و ( سوف ) لتحقيق حصول العلم . وحذف مفعول ( تعلمون ) لظهور أن المراد : تعلمون سوء مغبة لهوكم بالتكاثر عن قبول دعوة الإسلام .
وأكد الزجر والوعيد بقوله :
ثم كلا سوف تعلمون ، فعطف عطفا لفظيا بحرف التراخي أيضا للإشارة إلى تراخي رتبة هذا الزجر والوعيد عن رتبة الزجر والوعيد الذي قبله ، فهذا زجر ووعيد مماثل للأول لكن عطفه بحرف ( ثم ) اقتضى كونه أقوى من الأول لأنه أفاد تحقيق الأول وتهويله .
فجملة
ثم كلا سوف تعلمون توكيد لفظي لجملة
كلا سوف تعلمون وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس كلا سوف تعلمون ما ينزل بكم من عذاب في القبر
ثم كلا سوف تعلمون عند البعث أن ما وعدتم به صدق ، أي : تجعل كل جملة مرادا بها تهديد بشيء خاص . وهذا من مستتبعات التراكيب والتعويل على معونة القرائن بتقدير مفعول خاص لكل من فعلي ( تعلمون ) ، وليس تكرير الجملة بمقتض ذلك في أصل الكلام ، ومفاد التكرير حاصل على كل حال .