ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل .
استفهام تقريري ، وقد بينا غير مرة أن الاستفهام التقريري كثير ما يكون على نفي المقرر بإثباته للثقة ، فإن المقرر لا يسعه إلا إثبات المنفي ، وانظر عند قوله تعالى :
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم في سورة البقرة ، والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم ، وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته ، وعليه فالتقرير مستعمل مجازا في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - فيكون من باب قوله :
لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد [ ص: 545 ] وفيه مع ذلك تعريض بكفران
قريش نعمة عظيمة من نعم الله عليهم ، إذ لم يزالوا يعبدون غيره .
والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - كما يقتضيه قوله ( ربك ) . فمهيع هذه الآية شبيه بقوله تعالى :
ألم يجدك يتيما فآوى الآيات ، وقوله :
لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد على أحد الوجوه المتقدمة .
فالرؤية يجوز أن تكون مجازية مستعارة للعلم البالغ من اليقين حد الأمر المرئي لتواتر ما فعل الله بأصحاب الفيل بين أهل
مكة وبقاء بعض آثار ذلك يشاهدونه . وقال
أبو صالح : رأيت في بيت
nindex.php?page=showalam&ids=94أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة سودا مخططة بحمرة . وقال
عتاب بن أسيد : أدركت سائس الفيل وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس . وقالت
عائشة : لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس ، وفعل الرؤية معلق بالاستفهام .
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية بالنسب لمن تجاوز سنه نيفا وخمسين سنة عند نزول الآية ممن شهد حادث الفيل غلاما أو فتى مثل
أبي قحافة وأبي طالب وأبي بن خلف .
و ( كيف ) للاستفهام سد مسد مفعولين أو مفعول ( تر ) ، أي : ألم تر جواب هذا الاستفهام كما تقول : علمت هل زيد قائم ؟ وهو نصب على الحال من فاعل ( تر ) . ويجوز أن يكون ( كيف ) مجردا عن معنى الاستفهام مرادا منه مجرد الكيفية ، فيكون نصبا على المفعول به .
وإيثار ( كيف ) دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول فلم يقل : ألم تر ما فعل ربك ، أو الذي فعل ربك ، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة .
وأوثر لفظ
فعل ربك دون غيره ; لأن مدلول هذا الفعل يعم أعمالا كثيرة لا يدل عليها غيره .
وجيء في تعريف الله سبحانه بوصف ( رب ) مضافا إلى ضمير النبيء - صلى الله عليه وسلم -
[ ص: 546 ] إيماء إلى أن المقصود من التذكير بهذه القصة
تكريم النبيء - صلى الله عليه وسلم - إرهاصا لنبوته ، إذ كان ذلك عام مولده .
وأصحاب الفيل : الحبشة الذين جاءوا
مكة غازين مضمرين هدم
الكعبة انتقاما من العرب من أجل ما فعله أحد
بني كنانة الذين كانوا أصحاب النسيء في أشهر الحج . وكان خبر ذلك وسببه أن
الحبشة قد ملكوا
اليمن بعد واقعة الأخدود التي عذب فيها الملك
ذو نواس النصارى ، وصار أمير
الحبشة على
اليمن رجلا يقال له
أبرهة ، وأن
أبرهة بنى كنيسة عظيمة في
صنعاء دعاها
القليس ( بفتح القاف وكسر اللام بعدها تحتية ساكنة ، وبعضهم يقولها بضم القاف وفتح اللام وسكون التحتية ، وفي القاموس بضم القاف وتشديد اللام مفتوحة وسكون الياء ، وكتبه
السهيلي بنون بعد اللام ولم يضبطه وزعم أنه اسم مأخوذ من معاني القلس للارتفاع ، ومنه القلنسوة واقتصر على ذلك ولم أعرف أصل هذا اللفظ ، فإما أن يكون اسم جنس للكنيسة ، ولعل لفظ كنيسة في العربية معرب منه ، وإما أن يكون علما وضعوه لهذه الكنيسة الخاصة ) وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون
الكعبة ، فروي أن رجلا من
بني فقيم من
بني كنانة وكانوا أهل النسيء للعرب كما تقدم عند قوله تعالى :
إنما النسيء زيادة في الكفر في سورة براءة ، قصد
الكناني صنعاء حتى جاء القليس فأحدث فيها تحقيرا لها ليتسامع العرب بذلك ، فغضب
أبرهة وأزمع غزو
مكة ليهدم
الكعبة ، وسار حتى نزل خارج
مكة ليلا بمكان يقال له
المغمس ( كمعظم ) موضع قرب
مكة في طريق
الطائف ) أو
ذو الغميس لم أر ضبطه وأرسل إلى
عبد المطلب ليحذره من أن يحاربوه وجرى بينهما كلام ، وأمر
عبد المطلب آله وجميع أهل
مكة بالخروج منها إلى الجبال المحيطة بها خشية من معرة الجيش إذا دخلوا
مكة ، فلما أصبح هيأ جيشه لدخول مكة وكان
أبرهة راكبا فيلا وجيشه معه ، فبينا هو يتهيأ لذلك إذ أصاب جنده داء عضال هو الجدري الفتاك يتساقط منه الأنامل ، ورأوا قبل ذلك طيرا ترميهم بحجارة لا تصيب أحدا إلا هلك وهي طير من جند الله ، فهلك معظم الجيش وأدبر بعضهم ، ومرض
أبرهة فقفل راجعا إلى
صنعاء مريضا ، فهلك في
صنعاء وكفى الله أهل
مكة أمر عدوهم . وكان ذلك في شهر محرم الموافق لشهر شباط ( فبراير )
[ ص: 547 ] سنة 570 بعد ميلاد
عيسى - عليه السلام - وبعد هذا الحادث بخمسين يوما ولد النبيء - صلى الله عليه وسلم - على أصح الأخبار وفيها اختلاف كثير .
والتعريف في ( الفيل ) للعهد ، وهو فيل
أبرهة قائد الجيش كما قالوا للجيش الذي خرج مع
عائشة أم المؤمنين أصحاب الجمل يريدون الجمل الذي كانت عليه
عائشة ، مع أن في الجيش جمالا أخرى . وقد قيل : إن جيش
أبرهة لم يكن فيه إلا فيل واحد ، هو فيل أبرهة وكان اسمه محمودا . وقيل : كان فيه فيلة أخرى ، قيل ثمانية ، وقيل : اثنا عشر . وقال بعض : ألف فيل ووقع في رجز ينسب إلى
عبد المطلب :
أنت منعت الحبش والأفيالا
فيكون التعريف تعريف الجنس ويكون العهد مستفادا من الإضافة .
والفيل : حيوان عظيم من ذوات الأربع ذوات الخف ، من حيوان البلاد الحارة ذات الأنهار من
الهند والصين والحبشة والسودان ، ولا يوجد في غير ذلك إلا مجلوبا ، وهو ذكي قابل للتأنس والتربية ، ضخم الجثة أضخم من البعير ، وأعلى منه بقليل وأكثر لحما وأكبر بطنا . وخف رجله يشبه خف البعير وعنقه قصير جدا له خرطوم طويل هو أنفه يتناول به طعامه وينتشق به الماء فيفرغه في فيه ، ويدفع به عن نفسه ، يختطف به ويلويه على ما يريد أذاه من الحيوان ويلقيه على الأرض ويدوسه بقوائمه . وفي عينيه خزر وأذناه كبيرتان مسترخيتان ، وذنبه قصير أقصر من ذنب البعير وقوائمه غليظة ، ومناسمه كمناسم البعير وللذكر منه نابان طويلان بارزان من فمه يتخذ الناس منها العاج ، وجلده أجرد مثل جلد البقر ، أصهب اللون قاتم كلون الفار ، ويكون منه الأبيض الجلد . وهو مركوب وحامل أثقال وأهل
الهند والصين يجعلون الفيل كالحصن في الحرب يجعلون محفة على ظهره تسع ستة جنود . ولم يكن الفيل معروفا عند العرب ، فلذلك قل أن يذكر في كلامهم وأول فيل دخل بلاد العرب هو الفيل المذكور في هذه السورة .
وقد ذكرت أشعار لهم في ذكر هذه الحادثة في السيرة ، ولكن العرب كانوا يسمعون أخبار الفيل ويتخيلونه عظيما قويا ، قال
لبيد :
ومقام ضيق فرجته ببيان ولسان وجدل
[ ص: 548 ] لو يقوم الفيل أو فياله زل عن مثل مقامي ورحل
وقال
كعب بن زهير في قصيدته :
لقد أقوم مقاما لو يقوم به أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له من الرسول بإذن الله تنويل
وكنت رأيت أن . . . قال إن أمه أرته أو حدثته أنها رأت روث الفيل
بمكة حول
الكعبة ، ولعلهم تركوا إزالته ليبقى تذكرة .
وعن
عائشة وعتاب بن أسيد : رأيت قائد الفيل وسائسه
بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس .
والمعنى : ألم تعلم الحالة العجيبة التي فعلها الله بأصحاب الفيل ، فهذا تقرير على إجمال يفسره ما بعده .