إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر
افتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر ، والإشعار بأنه شيء عظيم يستتبع الإشعار بتنويه شأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في
إنا أنزلناه في ليلة القدر والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الإخبار بعطاء سابق .
وضمير العظمة مشعر بالامتنان بعطاء عظيم .
والكوثر : اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زنة فوعل ، وهي من صيغ
[ ص: 573 ] الأسماء الجامدة غالبا نحو الكوكب ، والجورب ، والحوشب والدوسر ، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها ، ولما وقع هنا فيها مادة الكثر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى ، ولذلك فسره
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري بالمفرط في الكثرة ، وهو أحسن ما فسر به وأضبطه ، ونظيره : جوهر ، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوه ، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء ; لأن الصومعة دقيقة ; لأن طولها أفرط من غلظها .
ويوصف الرجل صاحب الخير الكثير بكوثر من باب الوصف بالمصدر ، كما في قول
لبيد في رثاء
عوف بن الأحوص الأسدي :
وصاحب ملحوب فجعنا بفقده وعند الرداع بيت آخر كوثر
( ملحوب والرداع ) كلاهما ماء
لبني أسد بن خزيمة ، فوصف البيت بالكوثر ، ولاحظ الكميث هذا في قوله في مدح
nindex.php?page=showalam&ids=16491عبد الملك بن مروان :
وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن العقايل كوثرا
وسمي نهر الجنة كوثرا كما في حديث
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك المتقدم آنفا .
وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير : فقلت
nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس : إن ناسا يقولون هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير . وعن
عكرمة : الكوثر هنا : النبوءة والكتاب ، وعن
الحسن : هو القرآن ، وعن
المغيرة : أنه الإسلام ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11948أبي بكر بن عياش : هو كثرة الأمة ، وحكى
الماوردي : أنه رفعة الذكر ، وأنه نور القلب ، وأنه الشفاعة . وكلام النبيء - صلى الله عليه وسلم - المروي في حديث
أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره .
وأريد من هذا الخبر بشارة النبيء - صلى الله عليه وسلم - وإزالة ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه : هو أبتر ، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر ، إبطالا لقولهم .
وقوله :
فصل لربك اعتراض والفاء للتفريع على هذه البشارة بأن يشكر ربه
[ ص: 574 ] عليها ، فإن
الصلاة أفعال وأقوال دالة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته .
وناسب أن يكون الشكر بالازدياد مما عاداه عليه المشركون وغيرهم ممن قالوا مقالتهم الشنعاء : إنه أبتر ، فإن الصلاة لله شكر له وإغاظة للذين ينهونه عن الصلاة كما قال تعالى :
أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى لأنهم إنما نهوه عن الصلاة التي هي لوجه الله دون العبادة لأصنامهم ، وكذلك النحر لله .
والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله :
فصل لربك دون : فصل لنا ، لما في لفظ الرب من الإيماء إلى استحقاقه العبادة لأجل ربوبيته فضلا عن فرط إنعامه .
وإضافة ( رب ) إلى ضمير المخاطب لقصد تشريف النبيء - صلى الله عليه وسلم - وتقريبه ، وفيه تعريض بأنه يربه ويرأف به .
ويتعين أن في تفريع الأمر بالنحر مع الأمر بالصلاة على أن أعطاه الكوثر - خصوصية تناسب الغرض الذي نزلت السورة له ، ألا ترى أنه لم يذكر الأمر بالنحر مع الصلاة في قوله تعالى :
ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين في سورة الحجر .
ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صد المشركين إياه عن البيت في
الحديبية ، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيرا كثيرا ، أي : قدره له في المستقبل وعبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه ، فيكون معنى الآية كمعنى قوله تعالى :
إنا فتحنا لك فتحا مبينا فإنه نزل في أمر
الحديبية فقد قال له
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب : أفتح هذا ؟ قال : نعم .
وهذا يرجع إلى ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري عن قول
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير : أن قوله :
فصل لربك وانحر أمر بأن يصلي وينحر هديه وينصرف من
الحديبية .
وأفادت اللام من قوله ( لربك ) أنه يخص الله في صلاته فلا يصلي لغيره . ففيه تعريض للمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها .
وعطف ( وانحر ) على
فصل لربك يقتضي تقدير متعلقه مماثلا لمتعلق
[ ص: 575 ] فصل لربك لدلالة ما قبله عليه كما في قوله تعالى :
أسمع بهم وأبصر أي : وأبصر بهم ، فالتقدير : وانحر له . وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قربانا للأصنام ، فإن كانت السورة مكية ، فلعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اقترب وقت الحج وكان يحج كل عام قبل البعثة وبعدها وقد تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته ، وهو يود أن يطعم المحاويج من أهل
مكة ومن يحضر في الموسم ويتحرج من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم ، فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين ، أي : لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناويا بما تنحره أنه لله .
وإن كانت السورة مدنية وكان نزولها قبل فرض الحج كان النحر مرادا به الضحايا يوم عيد النحر ، ولذلك قال كثير من الفقهاء : إن قوله :
فصل لربك مراد به صلاة العيد . وروي ذلك عن
مالك في تفسير الآية وقال : لم يبلغني فيه شيء .
وأخذوا من وقوع الأمر بالنحر بعد الأمر بالصلاة دلالة على أن
الضحية تكون بعد الصلاة ، وعليه فالأمر بالنحر دون الذبح مع أن
الضأن أفضل في الضحايا وهي لا تنحر ، وأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يضح إلا بالضأن تغليب للفظ النحر وهو الذي روعي في تسمية يوم الأضحى يوم النحر ، وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج أو ليشمل الهدايا التي عطل إرسالها في يوم
الحديبية كما علمت آنفا . ويرشح إيثار النحر رعي فاصلة الراء في السورة . وللمفسرين الأولين أقوال أخر في تفسير ( انحر ) تجعله لفظا غريبا .