قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد .
افتتاحها بـ ( قل ) للاهتمام بما بعد القول بأنه كلام يراد إبلاغه إلى الناس بوجه خاص منصوص فيه على أنه مرسل بقول يبلغه ، وإلا فإن القرآن كله مأمور بإبلاغه ، ولهذه الآية نظائر في القرآن مفتتحة بالأمر بالقول في غير جواب عن
[ ص: 581 ] سؤال منها
قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله في سورة الجمعة . والسور المفتتحة بالأمر بالقول خمس سور : قل أوحي ، وسورة الكافرون ، وسورة الإخلاص ، والمعوذتان ، فالثلاث الأول لقول يبلغه ، والمعوذتان لقول يقوله لتعويذ نفسه .
والنداء موجه للأربعة الذين قالوا للنبيء - صلى الله عليه وسلم : فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ، كما في خبر سبب النزول وذلك الذي يقتضيه قوله : ولا أنتم عابدون ما أعبد كما سيأتي .
وابتدئ خطابهم بالنداء لإبلاغهم ; لأن النداء يستدعي إقبال أذهانهم على ما سيلقى عليهم .
ونودوا بوصف الكافرين تحقيرا لهم وتأييدا لوجه التبرؤ منهم ، وإيذانا بأنه لا يخشاهم إذا ناداهم بما يكرهون مما يثير غضبهم ; لأن الله كفاه إياهم وعصمه من أذاهم . قال
القرطبي : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12590أبو بكر بن الأنباري : إن المعنى : قل للذين كفروا يا أيها الكافرون . أن يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم : يا أيها الكافرون . وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر .
فقوله :
لا أعبد ما تعبدون إخبار عن نفسه بما حصل منها .
والمعنى : لا تحصل مني عبادتي ما تعبدون في أزمنة في المستقبل تحقيقا ; لأن المضارع يحتمل الحال والاستقبال ، فإذا دخل عليه ( لا ) النافية أفادت انتفاءه في أزمنة المستقبل كما درج عليه في الكشاف ، وهو قول جمهور أهل العربية . ومن أجل ذلك كان حرف ( لن ) مفيدا تأكيد النفي في المستقبل زيادة على منطلق النفي ، ولذلك قال
الخليل : أصل ( لن ) : لا أن ، فلما أفادت ( لا ) وحدها نفي المستقبل كان تقدير ( أن ) بعد ( لا ) مفيدا تأكيد ذلك النفي في المستقبل ، فمن أجل ذلك قالوا : إن ( لن ) تفيد تأكيد النفي في المستقبل فعلمنا أن ( لا ) كانت مفيدة نفي الفعل في المستقبل . وخالفهم
ابن مالك كما في مغني اللبيب ،
وأبو حيان كما قال في هذه السورة ،
والسهيلي عند كلامه على نزول هذه السورة في الروض الأنف .
[ ص: 582 ] ونفي عبادته آلهتهم في المستقبل يفيد نفي أن يعبدها في الحال بدلالة فحوى الخطاب ، ولأنهم ما عرضوا عليه إلا أن يعبد آلهتهم بعد سنة مستقبلة .
ولذلك جاء في جانب نفي عبادتهم لله بنفي اسم الفاعل الذي هو حقيقة في الحال بقوله : ولا أنتم عابدون ، أي : ما أنتم بمغيرين إشراككم الآن لأنهم عرضوا عليه أن يبتدئوا هم فيعبدوا الرب الذي يعبده النبيء - صلى الله عليه وسلم - سنة ، وبهذا تعلم وجه المخالفة بين نظم الجملتين في أسلوب الاستعمال البليغ .
وهذا إخباره إياهم بأنه يعلم أنهم غير فاعلين ذلك من الآن بإنباء الله تعالى نبيئه - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فكان قوله هذا من
دلائل نبوءته نظير قوله تعالى :
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فإن أولئك النفر الأربعة لم يسلم منهم أحد فماتوا على شركهم .
وماصدق ما أعبد هو الله تعالى وعبر بـ ( ما ) الموصولة ; لأنها موضوعة للعاقل وغيره من المختار ، وإنما تختص ( من ) بالعاقل ، فلا مانع من إطلاق ( ما ) على العاقل إذا كان اللبس مأمونا . وقال
السهيلي في الروض الأنف : أن ( ما ) الموصولة يؤتى بها لقصد الإبهام لتفيد المبالغة في التفخيم كقول العرب : سبحان ما سبح الرعد بحمده ، وقوله تعالى :
والسماء وما بناها كما تقدم في سورة الشمس .