تبت يدا أبي لهب وتب
افتتاح السورة بالتبات مشعر بأنها نزلت لتوبيخ ووعيد ، فذلك براعة استهلال مثل ما تفتتح أشعار الهجاء بما يؤذن بالذم والشتم ، ومنه قوله تعالى :
ويل للمطففين ، إذ افتتحت السورة المشتملة على وعيد المطففين للفظ الويل ومن هذا القبيل قول
عبد الرحمن بن الحكم من شعراء الحماسة :
لحا الله قيسا قيس عيلان إنها أضاعت ثغور المسلمين وولت
وقول
أبي تمام في طالعة هجاء :
النار والعار والمكروه والعطب
ومنه أخذ
nindex.php?page=showalam&ids=12694أبو بكر بن الخازن قوله في طالع قصيدة هناء بمولد :
مجشري فقد أنجز الإقبال ما وعد
[ ص: 601 ] والتب : الخسران والهلاك ، والكلام دعاء وتقريع
لأبي لهب دافع الله به عن نبيئه بمثال اللفظ الذي شتم به
أبو لهب محمدا - صلى الله عليه وسلم - جزاء وفاقا .
وإسناد التب إلى اليدين لما روي من أن
أبا لهب لما قال للنبيء : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ أخذ بيده حجرا ليرميه به . وروي عن
طارق المحاربي قال : بينا أنا بسوق
ذي المجاز ، إذا أنا برجل حديث السن يقول : أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ، وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ، يقول : يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه . فقلت : من هذا ؟ فقالوا : هذا
محمد يزعم أنه نبيء ، وهذا عمه
أبو لهب ، فوقع الدعاء على يديه لأنهما سبب أذى النبيء - صلى الله عليه وسلم - كما يقال للذي يتكلم بمكروه : ( بفيك الحجارة أو بفيك الكثكث ) ، وقول
النابغة :
قعودا لدى أبياتهم يثمدونها رمى الله في تلك الأكف الكوانع
ويقال بضد ذلك للذي يقول كلاما حسنا : لا فض فوك ، وقال أعرابي من
بني أسد :
دعوت لما نابني مسورا فلبى فلبي يدي مسور
لأنه دعاه لما نابه من العدو للنصر ، والنصر يكون بعمل اليد بالضرب أو الطعن .
وأبو لهب : هو عبد العزى بن عبد المطلب وهو عم النبيء - صلى الله عليه وسلم ، وكنيته
أبو عتبة تكنية باسم ابنه ، وأما كنيته
بأبي لهب في الآية ، فقيل كان يكنى بذلك في الجاهلية ( لحسنه وإشراق وجهه ) وأنه اشتهر بتلك الكنية كما اقتضاه حديث
طارق المحاربي ، ومثله حديث عن
nindex.php?page=showalam&ids=2884ربيعة بن عباد الديلي في مسند
أحمد ، فسماه القرآن بكنيته دون اسمه ; لأن في اسمه عبادة العزى ، وذلك لا يقره القرآن ، أو لأنه كان بكنيته أشهر منه باسمه العلم ، أو لأن في كنيته ما يتأتى به التوجيه بكونه صائرا إلى النار ، وذلك كناية عن كونه جهنميا ; لأن اللهب ألسنة النار إذا اشتعلت وزال عنها الدخان . والأب : يطلق على ملازم ما أضيف إليه ، كقولهم ( أبوها وكيالها ) ، وكما كني
إبراهيم - عليه السلام - أبا الضيفان ، وكنى النبيء - صلى الله عليه وسلم -
عبد [ ص: 602 ] الرحمن بن صخر الدوسي أبا هريرة ; لأنه حمل هرة في كم قميصه ، وكني شهر رمضان : أبا البركات ، وكني الذئب : أبا جعدة ، والجعدة سخلة المعز ; لأنه يلازم طلبها لافتراسها ، فكانت كنية
أبي لهب صالحة موافقة لحاله من استحقاقه لهب جهنم ، فصار هذا التوجيه كناية عن كونه جهنميا لينتقل من جعل
أبي لهب بمعنى ملازم اللهب إلى لازم تلك الملازمة في العرف ، وهو من أهل جهنم وهو لزوم ادعائي مبني على التفاؤل بالأسماء ونحوها كما أشار إليه
التفتزاني في مبحث العلمية من شرح المفتاح ، وأنشد قول الشاعر :
قصدت أبا المحاسن كي أراه لشوق كان يجذبني إليه
فلما أن رأيت رأيت فردا ولم أر من بنيه ابنا لديه
وقد يكون
أبو لهب كنيته الحطب كما أنبأ عنه ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة (
أن ابنة أبي لهب قالت للنبيء - صلى الله عليه وسلم : إن الناس يصيحون بي ويقولون : إني ابنة حطب النار ) . الحديث .
وقرأ الجمهور لفظ ( لهب ) بفتح الهاء ، وقرأه
ابن كثير بسكون الهاء ، وهو لغة لأنهم كثيرا ما يسكنون عين الكلمة المتحركة مع الفاء ، وقد يكون ذلك ; لأن ( لهب ) صار جزء علم ، والعرب قد يغيرون بعض حركات الاسم إذا نقلوه إلى العلمية كما قالوا : شمس بضم الشين .
ولشمس بن مالك الشاعر الذي ذكره
تأبط شرا في قوله :
إني لمهد من ثنائي فقاصد به لابن عم الصدق شمس بن مالك
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13042أبو الفتح بن جني في كتاب إعراب الحماسة : يجوز أن يكون ضم الشين على وجه تغيير الأعلام نحو معد يكرب ، وتهلك وموهب وغير ذلك مما غير على حال نظائره لأجل العلمية الحادثة فيه اهـ .
وكما قالوا :
أبو سلمى بضم السين كنية والد
زهير بن أبي سلمى ; لأنهم نقلوا اسم سلمى بفتح السين من أسماء النساء إلى جعله اسم رجل يكنى به ; لأنهم لا يكنون بأسماء النساء غالبا .
[ ص: 603 ] ولذلك لم يسكن
ابن كثير الهاء من قوله تعالى :
ذات لهب وقراءة
ابن كثير قراءة أهل
مكة فلعل أهل
مكة اشتهرت بينهم كنية
أبي لهب بسكون الهاء تحقيقا لكثرة دورانها على الألسنة في زمانه .
وجملة ( وتب ) إما معطوفة على جملة
تبت يدا أبي لهب عطف الدعاء على الدعاء إذا كان إسناد التبات إلى اليدين لأنهما آلة الأذى بالرمي بالحجارة كما في خبر
طارق المحاربي ، فأعيد الدعاء على جميعه إغلاظا له في الشتم والتفريع ، وتفيد بذلك تأكيدا لجملة
تبت يدا أبي لهب لأنها بمعناها ، وإنما اختلفتا في الكلية والجزئية ، وذلك الاختلاف هو مقتضي عطفها ، وإلا لكان التوكيد غير معطوف ; لأن التوكيد اللفظي لا يعطف بالواو كما تقدم في سورة الكافرون .
وإما أن تكون في موضع الحال ، والواو واو الحال ولا تكون دعاء إنما هي تحقيق لحصول ما دعي عليه به ، كقول
النابغة :
جزى ربه عني nindex.php?page=showalam&ids=76عدي بن حاتم جزاء الكلاب العاويات
وقد فعل فيكون الكلام قبله مستعملا في الذم والشماتة به أو لطلب الإزدياد ، ويؤيد هذا الوجه قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود وقد تب فيتمحض الكلام قبله لمعنى الذم والتحقير دون معنى طلب حصول التبات له ، وذلك كقول
nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة حين خروجه إلى غزوة
مؤتة التي استشهد فيها :
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي أرشدك الله من غاز وقد رشدا
يعني : ويقولوا : وقد رشدا ، فيصير قوله : أرشدك الله من غاز ، لمجرد الثناء والغبطة بما حصله من الشهادة .