ومن شر النفاثات في العقد
هذا النوع الثاني من الأنواع الخاصة المعطوفة على العام من قوله :
من شر ما خلق . وعطف
شر النفاثات في العقد على شر الليل ; لأن الليل وقت يتحين فيه السحرة إجراء شعوذتهم لئلا يطلع عليهم أحد .
والنفث : نفخ مع تحريك اللسان بدون إخراج ريق ، فهو أقل من التفل ، يفعله السحرة إذا وضعوا علاج سحرهم في شيء وعقدوا عليه عقدا ثم نفثوا عليها .
فالمراد بـ
النفاثات في العقد النساء الساحرات ، وإنما جيء بصفة المؤنث ; لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحر النساء ; لأن نساءهم لا شغل لهن بعد تهيئة لوازم الطعام والماء والنظافة ; فلذلك يكثر انكبابهن على مثل هاته السفاسف من السحر والتكهن ونحو ذلك ، فالأوهام الباطلة تتفشى بينهن ، وكان العرب يزعمون أن الغول ساحرة من الجن . وورد في خبر هجرة
الحبشة أن
عمارة بن الوليد بن المغيرة اتهم بزوجة
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي ، وأن
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي دعا له السواحر فنفخن في إحليله فصار مسلوب العقل هائما على وجهه ولحق بالوحوش . والعقد : جمع عقدة وهي ربط في خيط أو وتر يزعم السحرة أنه سحر المسحور يستمر ما دامت تلك العقدة معقودة ، ولذلك يخافون من حلها فيدفنونها أو يخبئونها في محل لا يهتدى إليه . أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة من شر السحرة ; لأنه ضمن له أن لا يلحقه شر السحرة ، وذلك إبطال لقول المشركين في أكاذيبهم إنه مسحور ، قال تعالى :
وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا .
وجملة القول هنا : أنه لما كان الأصح أن السورة مكية فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - مأمون من أن يصيبه شر النفاثات ; لأن الله أعاذه منها .
[ ص: 629 ] وأما السحر فقد بسطنا القول فيه عند قوله تعالى :
يعلمون الناس السحر في سورة البقرة .
وإنما جعلت الاستعاذة من النفاثات لا من النفث ، فلم يقل : إذا نفثن في العقد ، للإشارة إلى أن نفثهن في العقد ليس بشيء يجلب ضرا بذاته ، وإنما يجلب الضر النافثات وهن متعاطيات السحر ; لأن الساحر يحرص على أن لا يترك شيئا مما يحقق له ما يعمله لأجله إلا احتال على إيصاله إليه ، فربما وضع له في طعامه أو شرابه عناصر مفسدة للعقل أو مهلكة بقصد أو غير قصد ، أو قاذورات يفسد اختلاطها بالجسد بعض عناصر انتظام الجسم يختل بها نشاطه أو إرادته ، وربما أغرى به من يغتاله أو من يتجسس على أحواله ليري لمن يسألونه السحر أن سحره لا يختلف ولا يخطئ .
وتعريف ( النفاثات ) تعريف الجنس وهو في معنى النكرة لا تفاوت في المعنى بينه وبين قوله :
ومن شر غاسق وقوله :
ومن شر حاسد ، وإنما أوثر لفظ النفاثات بالتعريف ; لأن التعريف في مثله للإشارة إلى أنه حقيقة معلومة للسامع مثل التعريف في قولهم ( أرسلها العراك ) كما تقدم في قوله تعالى :
الحمد لله في سورة الفاتحة .
وتعريف ( النفاثات ) باللام إشارة إلى أنهن معهودات بين العرب .