ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم .
[ ص: 165 ] قوله لا تحسبن عطف على قل فادرءوا عن أنفسكم الموت ، فلما أمر الله نبيئه أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العنان لهم في ظنهم أن الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سدى ، فقيل لهم ، إن الموت لا مفر منه على كل حال ، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلة أهليتهم ، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة ، فقال
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا وهو إبطال لما تلهف منه المنافقون على إضاعة قتلاهم .
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء - صلى الله عليه وسلم - تعليما له ، وليعلم المسلمين ، ويجوز أن يكون جاريا على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معين .
والحسبان : الظن فهو نهي عن أن يظن أنهم أموات وبالأحرى يكون نهيا عن الجذم بأنهم أموات .
وقرأ الجمهور : الذين قتلوا بتخفيف التاء وقرأ
ابن عامر بتشديد التاء أي قتلوا قتلا كثيرا .
وقوله بل أحياء للإضراب عن قوله ولا تحسبن الذين قتلوا فلذلك كان ما بعدها جملة غير مفرد ، لأنها أضربت عن حكم الجملة ولم تضرب عن مفرد من الجملة ، فالوجه في الجملة التي بعدها أن تكون اسمية من المبتدأ المحذوف والخبر الظاهر ، فالتقدير : بل هم أحياء ، ولذلك قرأه السبعة - بالرفع - ، وقرئ - بالنصب - على أن الجملة فعلية ، والمعنى : بل أحسبتم أحياء ، وأنكرها
أبو علي الفارسي .
وقد أثبت القرآن للمجاهدين موتا ظاهرا بقوله قتلوا ، ونفى عنهم الموت الحقيقي بقوله بل أحياء عند ربهم يرزقون فعلمنا أنهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح ، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح ، غير مضمحلة ، بل هي حياة بمعنى تحقق
آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارة لأنفسهم ، ومسرتهم بإخوانهم ، ولذلك كان قوله عند ربهم دليلا على أن حياتهم خاصة بهم ، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم ، أعني حياة
[ ص: 166 ] الأجسام وجريان الدم في العروق ، ونبضات القلب ، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس ، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائما لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنة . فإن علقنا عند ربهم بقوله أحياء كما هو الظاهر ، فالأمر ظاهر ، وإن علقناه بقوله يرزقون فكذلك ، لأن هذه الحياة لما كان الرزق الناشئ عنها كائنا عند الله ، كانت حياة غير مادية ولا دنيوية ، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق . وقوله فرحين حال من ضمير يرزقون .
والاستبشار : حصول البشارة ، فالسين والتاء فيه كما في قوله تعالى واستغنى الله وقد جمع الله لهم بين المسرة بأنفسهم والمسرة بمن بقي من إخوانهم ، لأن في بقائهم نكاية لأعدائهم ، وهم مع حصول فضل الشهادة لهم على أيدي الأعداء يتمنون هلاك أعدائهم ، لأن في هلاكهم تحقيق أمنية أخرى لهم وهي أمنية نصر الدين .
فالمراد بالذين لم يلحقوا بهم رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم ، ومعنى لم يلحقوا بهم لم يستشهدوا فيصيروا إلى الحياة الآخرة .
و ( من خلفهم ) تمثيل بمعنى من بعدهم ، والتقدير : ويستبشرون بالذين لم يصيروا إلى الدار الآخرة من رفاقهم بأمنهم وانتفاء ما يحزنهم . وقوله ألا خوف عليهم بدل اشتمال ، و ( لا ) عاملة عمل ليس ومفيدة معناها ، ولم يبن اسم لا على الفتح هنا لظهور أن المقصود نفي الجنس ولا احتمال لنفي الوحدة فلا حاجة لبناء النكرة على الفتح ، وهو كقول إحدى نساء حديث
أم زرع nindex.php?page=hadith&LINKID=2002144زوجي كليل تهامه ، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمه برفع الأسماء النكرات الثلاثة .
وفي هذا دلالة على أن أرواح هؤلاء الشهداء منحت الكشف على ما يسرها من أحوال الذين يهمهم شأنهم في الدنيا . وأن هذا الكشف ثابت لجميع الشهداء في سبيل الله ، وقد يكون خاصا بالأحوال السارة لأنها لذة لها . وقد يكون عاما لجميع الأحوال لأن لذة الأرواح تحصل بالمعرفة ، على أن الإمام
الرازي حصر اللذة الحقيقية في المعارف . وهي لذة الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء ، ولو كانت سيئة .
وفي الآية بشارة لأصحاب أحد الأحياء بأنهم لا تلحقهم نكبة بعد ذلك اليوم .
[ ص: 167 ] وضمير يستبشرون بنعمة من الله يجوز أن يعود إلى الذين لم يلحقوا بهم فتكون الجملة حالا من الذين لم يلحقوا بهم أي لا خوف عليهم ولا حزن فهم مستبشرون بنعمة من الله ، ويحتمل أن يكون تكريرا لقوله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا والضمير لـ ( الذين قتلوا في سبيل الله ) ، وفائدة التكرير تحقيق معنى البشارة كقوله ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا فكرر أغويناهم ، ولأن هذا استبشار منه عائد لأنفسهم ، ومنه عائد لرفاقهم الذين استجابوا لله من بعد القرح ، والأولى عائدة لإخوانهم . والنعمة : هي ما يكون به صلاح ، والفضل : الزيادة في النعمة .
وقوله وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين قرأه الجمهور بفتح همزة أن على أنه عطف على نعمة من الله وفضل ، والمقصود من ذلك تفخيم ما حصل لهم من الاستبشار وانشراح الأنفس بأن جمع الله لهم المسرة الجثمانية الجزئية والمسرة العقلية الكلية ، فإن إدراك الحقائق الكلية لذة روحانية عظيمة لشرف الحقائق الكلية ، وشرف العلم بها ، وحصول المسرة للنفس من انكشافها لها وإدراكها ، أي استبشروا بأن علموا حقيقة كلية وسرا جليلا من أسرار العلم بصفات الله وكمالاته ، التي تعم آثارها أهل الكمال كلهم ، فتشمل الذين أدركوها وغيرهم ، ولولا هذا المعنى الجليل لم يكن داع إلى زيادة وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين إذ لم يحصل بزيادته زيادة نعمة وفضل للمستبشرين من جنس النعمة والفضل الأولين ، بل حصلت نعمة وفضل آخران . وقرأ الكسائي بكسر همزة ( إن ) على أنه عطف على جملة يستبشرون في معنى التذييل فهو غير داخل فيما استبشر به الشهداء . ويجوز أن تكون الجملة على هذا الوجه ابتداء كلام ، فتكون الواو للاستئناف .
وجملة
الذين استجابوا لله والرسول صفة للمؤمنين أو مبتدأ خبره للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم وهذه الاستجابة تشير إلى ما وقع إثر أحد من الإرجاف بأن المشركين ، بعد أن بلغوا الروحاء ، خطر لهم أن لو لحقوا المسلمين فاستأصلوهم . وقد مر ذكر هذا وما وقع
لمعبد بن أبي معبد الخزاعي عند قوله
[ ص: 168 ] تعالى
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم . وقد تقدم القول في القرح عند قوله
إن يمسسكم قرح . والظاهر أنه هنا القرح المجازي ، ولذلك لم يجمع فيقال القروح .